ذكرى رحيل د.الترابي

وتمر ذكرى رحيل شيخنا المجدد حسن الترابي ويتجدد الحزن والحسرة أننا ما عدنا نحظى برؤيته او سماعه مرة أخرى.
> تعود الذكرى وقد اضمحلت وتضاءلت مكانة (الكوز) لدى قطاعات واسعة من المجتمع السوداني ونحمد الله أن الشيخ مضى قبل أن يسمع شعار (اي كوز ندوسوا دوس) ..تلك الترنيمة الفاجرة التي يرددها مبغضو الترابي من الشيوعيين الذين نقموا منه أن أذاقهم مر الهزائم الفكرية والسياسية حتى أزاحهم من سطح الحياة السياسية بعد أن كانوا أولي سطوة على مثقفي ونخب السودان قل نظيرها في العالم الثالث بأجمعه.

> قلت لصديق كرر مقولة ظالمة أن من يحملون الترابي المسؤولية عن الواقع البائس الماثل الآن من تخبط يحاكم به (الكيزان) اليوم ، ما أنصفوه ذلك إنه خطط وجاهد وسجن من أجل إعادة الحريات التي لطالما عشقها ولكن نفراً من تلاميذه، رغم أنهم درسوا في الغرب الديمقراطي، غدروا به وأسلموا السلطة للعسكر ثم إنه ما تنكر للحريات حين انقلب عليها إنما اضطر الى ذلك بفقه المعتدى عليه وقد أزيح بانقلاب مذكرة الجيش فكان اجتهاده الذي لم يحتمله بعض (المستسلمين) من الإسلاميين الذين لا يحسنون فقه التدافع وقد رأوا ما حدث في تجارب أخرى اطفئ فيها نور الإسلام بتواطؤ من أعدائه في الغرب الذي لا يرغب في ديمقراطية او حرية تبزغ بالإسلام.

> أكثر ما يمزقني أن تلاميذه (العشرة) استنكفوا عن الاعتذار عن ما اقترفوه في حق مشروع تواثقوا عليه وفي حق شيخهم حتى بعد أن ووري الثرى!
> ربما كان خطؤه أن يظن في تلاميذه ممن عاهدوه قبل الانقلاب، إنهم ملائكة أطهار متجاهلاً حقيقة أن (جده) آدم أغوي بالسلطة فعصى ربه سبحانه وأطاع أبليس رغبة في (شجرة الخلد وملك لا يبلى)!
مذيع قناة الجزيرة فوزي بشرى توجع كما توجعت فذرف العبرات التالية في حق شيخه :
الى جنات الخلد حسن الترابي ..

> المعاصرة حجاب..والخصومة حجاب أشد كثافة.. والمنافسة العاطلة عن الموهبة، فوق أنها تحجب بداعية العجز، فهي توغر الصدور وتتنقص ما يمكن أن يتاح لإنسان من فضائل ومن نسب لفعله بالمجد. وحين تسقط كل هذه الحجب جميعاً (إلا الحجب المتأتية من قلة النباهة فهذه لن تسقط أبداً) سيبرز وجه الشيخ حسن الترابي عليه شآبيب الرحمة من ربه، سيبرز وجهه وضيئاً في تاريخ السودان عالماً وسياسياً وخطيباً ..عالماً قام بفريضة التفكير كما لم يقم بها سياسي في هذا البلد. وسيتربع اسمه في دفتر التاريخ السوداني والإسلامي كواحد من قلة خاضوا غمار الحياة بلا مهابة واجترأوا على قوالب التفكير السائدة وعاداته ودخلوا قلاع النصوص ينخلونها نخلاً بعلم وكتاب منير.
> واحدة من إشكالات التاريخ الماثل وقائع بين أيدي الناس أنه لا يحسن النظر والتأمل فيه ولا درسه إلا حين يصفو من كدر الخصومات وضغط الأحداث على الفاعلين وعلى الشاهدين عليها بالحق وبغيره. وحين يصفو كدر السياسة السودانية من التلاحي والخصومات والكيد فلن يجد الناظرون في التاريخ رجلاً كان له من الأثر في تاريخ البلاد ما كان للترابي, وهو أثر امتد الى خارج السودان فألهم عقولاً وشحذ همماً فكم من منبر في العالم الإسلامي احتفى به وأنزله منزلته من الإكبار والإجلال وكم من شيوخ استكثروا عليه كسبه في التدين والحياة فكادوا له لما دخل عليهم نصوصهم واستفزهم الى تأمل جديد في الدين يرده الى الحياة فيكون منها وتكون منه.

> لم يكن الترابي عالم دين وحسب ولا كان فقيهاً قانونياً و لا كان سياسياً غارقاً في السياسة، بل كان كل أولئك جميعاً.
> الذين أكبروا علم الترابي تمنوا عليه لو أبقاه بعيداً من دنس السياسة ( هكذا يرونها ولعلها في كثير من شؤونها كذلك) والذين أعجبهم جلده السياسي وقوة شكيمته وشدة ضرابه خصومه وددوا لو أنه قابلهم بكلام في السياسة لا دين فيه ولا محاججة به. وهنا تحديداً يأتي أثر الترابي الذي لن يمحي في الحياة السودانية وهو طلبه الذي وهبه عمره كله والمتمثل في رؤية الديني في الدنيوي ورؤية الدنيوي في الديني في علاقة لا يقوم فيها واحد دون الآخر. وهذا معطى جديد في السياسة السودانية خرج بها من حالة التكسب السياسي من تجارب انتجتها ظروف بلدانها فضلاً عن عقول أهلها.
> ميزة الترابي أنه لم ير بأساً من عراك الدين أو قل التدين بالحياة و لم يتهيب كثير الأذى أو قليله المترتب عن نزع (الإكبار الكهنوتي) عن (شيخ الدين). ذلك عنده ثمن لابد من دفعه إذا أردت أن تكون في متن الحياة لا هامشها. (هذا المسعى كان و لايزال وسيبقى مبذولا للألسن والأقلام تتناوله إما حامدة له أو منكرة بغليظ القول. ولأنه كذلك فسيبقى بابا في السياسة جديرا بالبحث والتأمل.
> أخشى ما أخشاه أن يفرح خصومه بموته و أخوف ما أخاف أن تستبد بخصومه نشوة ظفر بغيابه لا يد لهم فيها فقد ترجل فارس حلبة السياسة السودانية حين جاء أجله الذي لا يتقدم و لا يتأخر تاركا وراءه إرثاً وعلماً سيكون أطول وأبقى من أعمار شانئيه و أحلاماً سيكون لها من علمه مدد أي مدد.
تقول هل أخطأ؟ و من من الناس لم يخطئ؟ فأيكم سينصب له موازين الحساب وما في صحيفته خطأ أو خطيئة؟ الحمقى وحدهم يفعلون ذلك ومن يصدرون عن نفوس سقيمة شحيحة في إنسانيتها.
اللهم تقبل عبدك حسن في الصالحين وأدخله في زمرة الصديقين وتجاوز عنه واغفر له إنك رؤوف رحيم ولآله وعارفي فضله وعلمه في العالمين جميل الصبر وحسن التعزي.

الطيب مصطفى
صحيفة الإنتباهة

Exit mobile version