بين المحكومين والحاكم

إن من أصول أهل السنة والجماعة السمع والطاعة للحاكم المسلم .. في المنشط والمكره والعسر واليسر، وإن حصل الظلم ووقع الأذى، وصار الاستئثار بالأموال والمناصب وغيرها. إن العلاقة مع الحاكم هي علاقة محكومين بحاكم، فللحاكم حقوق وللمحكومين (الرعية) حقوق، ولا ترجع القضية لمبدأ ندية أو تخضع لأي نوع من المساومات!!
وفي مقالات سابقة بيّنت هذه القضية بأدلتها وتفصيلاتها. فالشرع قد حسم أمر التعامل مع الحاكم والعلاقة معه، وإن ما يجري الله بهم من الخير للرعية أعظم مما يقع من الزلل والخطأ والمنكرات .. ويعقل ذلك من يعلم قيمة وأهمية نعمة (الأمن) خاصة في هذا الزمان .. ومن المهمات التذكير بالموقف الشرعي من الحاكم المسلم بين كل فترة وحين، خاصة في وقت نشر أخطاء وتجاوزات ونشر قصص فساد بعض موظفي الدولة.
وموقف أهل السنة السلفيين في قضايا الحاكم والحاكمية لم يكن ليبنى على نظرة (حزبية) أو ارتباط (شخصي)، وإنما يقوم على نصوص ومصالح ومقاصد شرعية، لذلك اتّحد قولهم مهما تباعدت بلدانهم واختلفت أزمانهم .. وهم يدعون للحاكم بالتوفيق وينصحون له بالطريقة الشرعية التي جاءت بها توجيهات النبي محمد عليه الصلاة والسلام .. وفي ما يلي أذكر بعض ما يستضيء به السلفيون في موقفهم من الحاكم:
يقول الحسن البصري في الأمراء: (هم يلون من أمورنا خمساً: الجمعة والجماعة والعيد والثغور والحدود . والله لا يستقيم الدين إلا بهم، وإن جاروا وظلموا والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون، مع أن طاعتهم ــ والله ــ لغبطة).

قال أبو عثمان الزاهد: (فانصح للسلطان وأكثر له من الدعاء بالإصلاح والرشاد، بالقول والعمل والحكم، فإنهم إذا صلحوا، صلح العباد بصلاحهم. وإياك أن تدعو عليهم باللعنة، فيزدادوا شراً، ويزداد البلاء على المسلمين، ولكن ادعوا لهم بالتوبة فيتركوا الشر، فيرتفع البلاء عن المؤمنين).ويقول الفقيه القلعي الشافعي وهو يبين مصالح الحاكم ومقاصد الإمامة: (نظام أمر الدين والدنيا مقصود، ولا يحصل ذلك إلا بإمام موجود. لو لم نقل بوجوب الإمامة، لأدى ذلك إلى دوام الاختلاف والهرج إلى يوم القيامة. لو لم يكن للناس إمام مطاع، لانثلم شرف الإسلام وضاع. لو لم يكن للأمة إمام قاهر، لتعطلت المحاريب والمنابر، وانقطعت السبل للوارد والصادر. لو خلي عصر من إمام، لتعطلت فيه الأحكام، وضاعت الأيتام، ولم يحج البيت الحرام. لولا الأئمة والقضاة والسلاطين والولاة، لما نكحت الأيامى، ولا كفلت اليتامى. لولا السلطان لكان الناس فوضي ولأكل بعضهم بعضاً).

قال الفضيل بن عياض: (لو كان لي دعوة مستجابة ما جعلتها إلا للسلطان، قيل له: يا أبا علي فَسِّر لنا هذا ؟ قال: إذا جعلتها في نفسي لم تعْدُني، وإذا جعلتها في السلطان صلح، فصلح بصلاحه العباد والبلاد، فأُمرنا أن ندعو لهم بالصلاح، ولم نؤمر أن ندعو عليهم، وإن جاروا وظلموا؛ لأن جورهم وظلمهم على أنفسهم، وصلاحهم لأنفسهم وللمسلمين).

قال الإمام البربهاري : (إذا رأيت الرجل يدعو على السلطان فاعلم أنه صاحب هوى، وإذا سمعت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح فاعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله تعالى).
قال الإمام الطحاوي الحنفي: (ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية وندعو لهم بالصلاح والمعافاة، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله تعالى فريضة ما لم يأمروا بمعصية).
يقول ابن تيمية: (كان السلف الصالح كالفضيل بن عياض، والإمام أحمد بن حنبل، وغيرهما يقولون: (لو كان لنا دعوة مستجابة لدعونا بها للسلطان).
وقد سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز عمَّن يمتنع عن الدعاء لولاة الأمر فقال: (هذا مِن جهله وعدم بصيرتِه، الدعاءُ لوليِّ الأمر من أعظم القُربات وأفضل الطاعات، ومن النصيحة لله ولعباده … ).

يقول الطرطوشي المالكي : (كان العلماء يقولون :إذا استقامت لكم أمور السلطان، فاكثروا حمد الله تعالي وشكره. وأن جاءكم منه ما تكرهون، وجهوه إلى ما تستوجبونه بذنوبكم وتستحقونه بآثامكم. وأقيموا عذر السلطان، لانتشار الأمور عليه، وكثرة ما يكابده من ضبط جوانب المملكة، واستئلاف الأعداء وإرضاء الأولياء، وقلة الناصح وكثرة التدليس والطمع).
إن من يتأمل النصوص الواردة في هذا الباب وأقوال السلف الصالح يعلم أن الشارع إنما أمر بتوقير الولاة وتعزيزهم، ونهى عن سبهم وانتقاصهم لحكمة عظيمة ومصلحة كبرى، وأشار إلى طرف منها الإمام القرافي المالكي فقال: (قاعدة ضبط المصالح العامة واجب ولا ينضبط إلا بعظمة الأئمة في نفس الرعية، ومتى اختلفت عليهم أو أهينوا تعذرت المصلحة ..).

قال الإمام بدر الدين ابن جماعة في مساق ذكر حقوق ولي الأمر: (الحق الرابع: أن يعرف أن له عظيم حقه، وما يجب من تعظيم قدره، فيعامل بما يجب له من الاحترام والإكرام، وما جعل الله تعالي له من الإعظام، ولذلك كان العلماء الأعلام من أئمة الإسلام يعظمون حرمتهم ويلبون دعوتهم مع زهدهم وورعهم وعدم الطمع في ما لديهم، وما يفعله بعض المنتسبين إلى الزهد من قلة الأدب معهم فليس من السنة).
قال سهل بن عبد الله التستري : (لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء، فإن عظموا هذين: أصلح الله دنياهم وأخراهم، وإن استخفوا بهذين: أفسدوا دنياهم وأخراهم ).. وللاستزادة يرجى الاطلاع على كتاب معاملة الحكام في ضوء الكتاب والسنة للدكتور عبد السلام بن برجس رحمه الله.
وعلى ضوء هذه الدرر وأمثالها من كلام أهل العلم الذي بني على نصوص الكتاب والسنة يجب على الرعية أن تبنى مواقفهم في هذا الأمر وغيره من الأمور، وهو ما عليه أهل السنة أتباع الأثر الذين هم أعرف الناس بالحق وأرحم الخلق بالخلق، وقد ضلّ الخوارج في القديم والحديث بمواقفهم التي قامت على عدم الفقه والتلقي على العلماء الأكابر كما ضلّ الروافض الذين ادعوا العصمة وعدم الخطأ في أئمتهم ــ والأئمة منهم ومن إفكهم براء ــ وإن أهل السنة وسط في كل الأمور بين الغالي والجافي ..

وإن المتأمل يتبيّن له تميز منهج أهل السنة والجماعة في قضية العلاقة بالحاكم المسلم، ويتميزون بالاحتكام للنصوص الشرعية التي وردت في كتاب رب البرية وسنة خير وأزكى البشرية .. ويفقهون مصالحها الشرعية ومقاصدها وغاياتها المرعية.. فإنهم قد آووا إلى ركن شديد .. لا يتناقض ولا يضطرب ولا يرتبط بالمصالح الأرضية والمكايدات السياسية والأهداف الحزبية.. ولذلك تجد مواقفهم في القضية الواحدة ثابتة ثبوت جبل أحد في أرض طيبة الطيبة مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإن إهدار هيبة الحاكم والسخرية به والاستخفاف من الأمور التي يجب اجتنابها، فإن الله يدفع بهم.. فإن الله تعالى بالأئمة يؤمّن لنا السبل، وإن لم يكن حاكم يردع بقوته لكان أضعف الناس نهباً لأقواهم .. وإنا عملاً بالسنة لندعو لحاكمنا ونوابه ووزرائه وولاته ووزرائه بكل خير، بذلك يدعو أهل السنة الذين ليس لهم ارتباط بالحاكم أو حكومته بمصلحة شخصية أو حزبية، أو طمع في أمر دنيوي .. وإنما هو الدين

د. عارف الركابي
صحيفة الإنتباهة

Exit mobile version