“زوجتك نفسي”.. الاحتيال على الدين والمرأة في أوروبا

الزواج في التصور والتشريع الإسلامي يقوم على نية السكن والمودة، ولا يجوز بأي حال من الأحوال انتهاك قدسيته والمساس بديمومته إذ الأصل في عقده التَّأبيد. والواقع أن الذمم الفاسدة تنتهك هذه الرابطة المقدسة وتهتك أعراض نساء مسلمات بجشع “المتعة” تحت غطاء “عرفي” في أوربا.

ليس الغرض هنا أن أتحدث عن زواج المتعة بصيغته المعلومة وإن كان ظاهرة خطيرة وكثيفة الإنتشار في أوربا أو على الأقل في جزء مهم منها كبلجيكا، وهولندا وفرنسا. الحديث هنا هو عن صيغة أشد خطرا ودهاء لأنها تتأسس على الخبث والمكر والتلاعب بمشاعر وكرامة ومصائر الفتيات المسلمات ببلاد الغرب، حيث يعمد أحدهم إلى استدراج الفتاة عارضا عليها الارتباط العرفي، وهو ينتوي زواج المتعة، في سياق يدرك فيه أن فرصة إقناعها كبيرة.

في بلجيكا مثلا ثمة شباب عربي مسلم ينحدر من أصول مغاربية أو غيرها متأثر بالتشيع، أو ممن تستهويهم الفكرة، يلجأ إلى عقد ارتباط عرفي أضمر فيه إرادة زواج المتعة كما هو قائم عند الشيعة الإمامية والذي معناه أن يقترن الرجل بامرأة لمدة زمنية محددة، وتسقط حقوقها من ميراث ونفقة وإثبات نسب وتوثيق عقد. وهو باطل محرم ومعناه الزنا قطعا. أما الزواج العرفي فهو عقد زواجٍ “جرى على العرف والعادة شرعي كامل الشروط والأركان”، إلا أنّه خلا من التوثيق رسميّاً لدى الجهات المختصة، “يجري فيه التّوارث وحرمة المُصاهرة ويثبت فيه النسب والمهر، وهو شرعي حسب الفقهاء لأن عدم التوثيق لا يؤثر في شرعيته”.

غير أن رصد الواقع يثبت أن ثمة صيغة تآمرية مدسوسة لزواج المتعة بغطاء زواج عرفي؛ خلطة تمويهية أساسها إرادة التضليل والاستخفاف بعقل المسلمة وغير المسلمة. يكون العقد شفويا تعلن فيه الفتاة في مجمع من الشهود وولي الأمر صيغة الإيجاب قائلة : “زوجتك نفسي”. ينعقد الرباط وينفض المجمع.

إن قبول الفتاة وأهلها لا يغير من جوهر الإشكالية شيئا، لأنهم في جميع الأحوال لا يدركون النية الحقيقية للخاطب. ولأن هذا الأخير يدرك استحالة الإعلان عن الرغبة في عقد زواج متعة في أوساط أسر عربية ومسلمة من المقيمين بالغرب لأن الجميع يعلم عدم شرعيته دينا وعقلا ومنطقا، وأن الزواج العرفي يمكن قبوله في ظروف معينة وتبقى استثنائية كتلك المتعلقة بالتعقيدات الإدارية على وجه الخصوص؛ (وهو أمر مؤقت في تصورهم في انتظار ركن التوثيق لاحقا حين يرتفع المانع القانوني)؛ فإنه يلجأ إلى الحيلة والمخادعة بإيهامها بإرادة عقد عرفي واستغلال كل الثغرات لتليين إرادتها، ومن أهمها التعقيدات الإدارية في بعض الدول الغربية التي تسن قوانين صارمة في إطار مكافحة ما يسمى بالزواج الأبيض وهو الذي يقوم على صفقة بين الطرفين ينال بموجبها أحدهما حق الإقامة ويتلقى الطرف الآخر مقابلا ماديا محددا. وتبقى العلاقة بينهما صورية لا أثر فيها لمعاشرة الأزواج.

إدراك السلطات الغربية لهذه السبل الملتوية للحصول على أوراق الإقامة يجعلها تطالب الطرفين بإثبات حقيقة الارتباط بينهما. وتقوم بالتمحيص عبر حملة استكشاف ومراقبة كأن تقوم بزيارة مفاجئة لبيت الزوجية المفترض للتحقق من وجود دلائل على المعاشرة الفعلية تحت سقف واحد قبل الموافقة على منح الشرعية القانونية والمدنية لطلب الزواج لدى السلطات المختصة. أمام هذا الإطار القانوني الصارم، تضطر الفتاة إلى القبول في انتظار التوثيق. المثال الوارد هنا يكون في حالة امتلاك أحد الطرفين لجنسية البلد المعني بالأمر مقابل عدم توفر الطرف الآخر على أوراق الإقامة. وهو ليس بالأمر الشاذ، بل شائع للغاية نظرا لوجود كثير من الأجانب ممن لهم إقامة محدودة كالطلاب أو ذوو التأشيرات الطويلة المدى.

في حالة أخرى، يكون الرجل في حالة انفصال عن زوجته، لكن إجراءات الطلاق ومدتها تأخذ وقتا معينا، وهو ما يعني امتناع حصول أي قران جديد إلى حين صدور قرار الطلاق رسميا. فيستغل هذا العائق القانوني ليعرض على الفتاة مشروع اقتران عرفي إلى حين استعادة الحرية القانونية المتمثلة في العزوبة. المدخل الآخر هو التكلفة المادية لمقتضيات الارتباط، فأمام امتناع الكفاءة أو القدرة المادية لتأمين مستلزمات الزفاف من إشهار كلي واحتفال وغيره، يقنع المحتال الفتاة بانتهاج مسلك التيسير والبركة والاكتفاء بالنكاح في أول الأمر، وإرجاء الترسيم وتبعاته إلى حين تبدل الحال وامتلاك المقومات المادية اللازمة.

“شرعنة” الجنس هو المسوغ الديني و”الحجة الدامغة” أو الأفيون في عُدة المحتال لإقناع الضحية، إذ يتم التذرع بسلاح الترهيب من الوقوع في الحرام، فيصور الإنتظار كفخ ينصبه الشيطان لاستدراج المؤمن إلى الفاحشة. إن تكريس ثقافة مركزية الإشباع الجنسي، ومداراتها بالهلع من الوقوع في الكبائر، تتحكم في توجيه القرار وموازنة الأمور، فتزيح من طريقها كل الاعتبارات الضرورية الأخرى وهكذا تلغي الفتاة من أولوياتها الأشياء التي بموجبها تكون آمنة على نفسها وعلى مستقبلها، وما يسيطر عليها هو هاجس تأمين حق التمتع للزوج في الحلال وبوتيرة التسريع.

إذا كان التوثيق غير متاح في زمن كان فيه الشأن الإداري مستصعبا خاصة في بعض الرقع المعزولة في العالم العربي والإسلامي فتم تجاوزه تيسيرا لشؤون العباد، فإن الأمر غير ذلك في زمننا هذا وفي أوربا تحديدا، إذ صارت شؤون التسيير لقضايا الناس هندسة دقيقة تحدد الواجبات والحقوق وللأسرة قانونها المتكامل ومستحقاتها ماليا وحقوقيا، ومدنيا. إذا كان هذا الأمر في تصوراتنا وأحكامنا لا يعدو أن يكون إجرائيا، فالواقع في بلاد الغرب أثبت لنا أنه أكبر وأخطر من ذلك بكثير، فكم انتهكت من كرامات وشرف وضاعت من حقوق وتهشمت حياة صبايا وأسر بسبب ماكرين أخفوا نيتهم الحقيقية التي لم تكن سوى إرادة التمتع بالفتاة لفترة زمنية معينة وحسب.

إن القانون المدني ينص على أن الزواج يقر للشريكين بحقوق ثابتة كالنفقة والميراث ونسب الولد وهي أمور لم يشرع التمتع بها لدى من يتعايشون بينهم (concubinage)كما أن الزواج العرفي يشكل المدخل الرئيسي لممارسة تعدد الزوجات. فكم رأينا من نساء متزوجات أفقن على صدمة أحدثها اعتراف الزوج طوعا أو كرها بوجود زوجة ثانية في حياته ارتبط بها عرفا مادام القانون الغربي لا يسمح بالتعدد. وهنا تكون المفارقة، بحيث ينتفي العدل بين الزوجتين وتتفاوت الحقوق، ففي حال وفاة الزوج مثلا، كل الحقوق المترتبة أسريا من ميراث ونصيب من دخل التقاعد إنما تعود حصريا إلى الزوجة “الرسمية”.

إن ضياع الحقوق الشخصية على المستوى النفسي والمادي لا يمكن أن يكون أمرا ثانويا في منظومة فقه الأولويات، بل على العكس من ذلك يكون تشخيص العلة، إقرار الأضرار وتحديد المسؤوليات، كلها سابقة في منظومة الحق من منظور ديني وحضاري. وتحقق التحصين للنفس من النزوع إلى الرذيلة والجنوح إلى الزنا لا يسقط أولوية حفظ الحقوق الشخصية. فلا يعقل ولا يجوز أن نغض الطرف عن التباس أمر الزواج العرفي بذريعة تحصين الشاب المسلم ومنحه إطارا مشرعنا ليقضي وطره الجنسي حتى ولو كان ذاك منفذا لتسرب الخطر ومطية يركبها ذوو النيات السيئة، والذمم الفاسدة. إن الإحصان ليس مبررا منطقيا ولا منصفا حتى يقدم على مصلحة المرأة.

والأمر ليس مسألة حسن نية أو سوئها إنما واقعية الطبيعة الإنسانية وتقلبات الأحوال والأمزجة، فالخلاف ونفور الطباع وتبدل المشاعر أمور واردة ولا سبيل إلى ضبطها والتحكم بها وتذليلها. فبمجرد نشوب خلاف وفرقة، يتحرر الرجل من وثاقه الهش بيسر ودونما عناء، يكفيه أن يحمل حقيبته الصغيرة ململما بعض ملابسه وأغراضه، وانتهى الأمر. إن توثيق الزواج ليس نافلة أو بندا للإسقاط بل هو ركن ثابت بحكم العقل وصيانة الحقوق في الدين. وهذا ليس إفتاء، وللفتوى أهلها، وإنما موقف امرأة مسلمة رأت سيولا من قصص فتيات معذبات دمر الزواج الغير موثق حياتهن في بلاد الغرب.

يظل الحديث بهذا الشأن حبيس المسكوت عنه لأن الضحية لا تتجرأ على كشفه خوفا أو خجلا أو مرارة. لا تقدر على مواجهة الأهل بحقيقة الفخ وما جرى، فتلجأ إلى الصمت واختلاق أعذار وتقديم تفسيرات زائفة نظرا للإحساس بالعار الذي لحقها، ثم خشية رد فعل الأهل قد يصل في ذروة عنفه إلى سفك الدماء، وقد تنال هي نفسها نصيبا من العقاب وتتحول إلى جانية رغم أنها الضحية.

إننا ندعو أهل العلم والإفتاء من هذه الأمة أن يحددوا موقفا قطعيا لا يدع مجالا للتحايل والتمويه والريب صيانة لكرامة وحقوق المرأة، مسلمة كانت أم من أهل الكتاب لدرء الفتنة والعدوان، وأن يعاودوا النظر في ثقل توثيق عقد الزواج باعتباره ركنا وليس محض إجراء.

زبيدة صالحي
الجزيرة نت

Exit mobile version