مُكافحة الفسـاد.. بين (طنين) الأقوال و(ضنين) الأفعال!!

* رئيس لجنة الحسابات والمظالم بالبرلمان: مُحاكمات مَنْ عُرفوا بـ(القطط السمان) لم تكن رادعةً بالحد الذي يجعلهم عِبرةً لمن يُعتبِر!!
* رئيس مُنظّمة الشفافية السودانية: إذا كانت الحكومة جَادّةً في مُحاربة الفساد فعليها أن تفعل الآتي (……..)
* فقيه قانوني: فساد بعض المسؤولين يعود إلى أسبابٍ ذاتيّةٍ وأُخرى موضوعية
* مُحلّل وأكاديمي اقتصادي: عبر هذه البوَّابة يتسلَّل الفساد
الناظرُ لحالِ ومآلِ بلادنا طوال سنواتها الأخيرة، يجد أنّ الحكومة لم تملْ من ترديد عبارة (مُطاردتها) للفساد حيث كان، وفي المُقابل ظلّ الشّعب يحبسُ أنفاسه في انتظار ربط الأقوال بالأفعال، لكن يبدو أنّ المُحصلة جاءت مُخيِّبة لآمال الكثيرين، فحسبما يُؤكِّد مُراقبون أنّه وحتى (الضّجّة) التي صاحبت حَملة الهجوم على (القطط السمان)، كانت أقسى عُقُوباتها (التسويات)!! الأسئلة التي نَسعَى للبحث عن إجابات لها هي: لماذا زاد الاهتمام مُؤخّراً بـ(مسألة) مُكافحة الفساد؟ أيعني ذلك – ولو ضمنياً – اعترافاً برائحة فساد بَدَت (تفُوح) داخل أجهزة الدولة ومُؤسّساتها؟ وهل سَتتم مُحاربته بكل شفافيةٍ حال تكوين مفوضية مُكافحة الفساد التي أُجيز قانونها منذ عام 2016م؟ وأخيراً وليس آخراً، لماذا لم تُحدَّد هيكلتها حتى الآن؟!.

(آلية) ثُمّ (مُفوضيّة)!!

الحقيقة التي لا مناصَ من الاعتراف بها بدءاً؛ إنّ الحديث عن الفساد بشقيه المالي والإداري في السودان قد كَثُر، لدرجة أنّ (مدفعيته) قد فُتِحتْ بشكلٍ عشوائي لم يَسلم منها حتى الأبرياء في بعض الأحيان، ليستبشر الناس خيراً بعد إعلان رئيس الجمهورية من داخل (قُبَّة) البرلمان عام 2015م عن إنشاء مُفوضيّة مُكافحة الفساد، وللتّذكير هُنا فَقَد كَانت تُوجد مُسبقاً آلية لمُكافحة الفساد قبل أن يتم حلُّها في العام 2013م ولم يَمضِ على تَكوينها حيئذٍ أكثر من عَـامٍ.
ومنذ ذلكم التاريخ لم يتوقَّف حديث الحكومة عن الفساد ومُكافحته عبر (الآلية) تارةً، والمفوضية تارةً أُخرى، فقبل أيام قلائل؛ دعا جهاز الأمن والمُخابرات الوطني – حسبما أوردت صحيفة “التيَّار” – دعا الصحفيين والإعلاميين للتقدُّم بمعلوماتٍ وملفاتٍ حول قضايا الفساد وشُبهاته المُختلفة.. هذه الخطوة وصفها الخبير القانوني د. إسماعيل الحاج موسى بـ(الجيدة جداً)، لجهة أنَّ الصحفيين أحياناً تتوفّر لهم معلومات وبيانات، بل ومُستندات ربما يصعُب توفُّرها عند غيرهم، مُشيراً في حديثه لـ(السوداني) إلى أنّ الأهم في الموضوع هو أن تستفيد الجهة الطالبة (جهاز الأمن) من هذه المعلومات والمُستندات لمُلاحَقة ومُطاردة ومُكافحة الفساد الذي كثُر الحديث عنه مُؤخّراً.. وطالب الحاج بأن تكون الخطوة التالية مُباشرةً بعد الحُصُول على معلومات وملفات حول الفساد وشُبهاته الاستعانة بالجهات المُختصة من شرطة ومُدِّعي عام ومراجع وغيرهما حتى تصل إلى نهاياتها ويرى الناس المُخرجات بأمِّ أعينهم.

بشفــافية

ويقول رئيس منظمة الشفافية السودانية د. الطيب مختار لـ(السوداني): قبل دعوة الصحفيين والإعلاميين لتقديم ما لديهم من ملفاتٍ ومُستندات فساد، لنا أن نتساءل لماذا تلجأ الدولة لتلكم الوسائل في حين أنّه بإمكانها إجازة قانون المُبلِّغين الذي يُوجد في مُعظم دُول العَالم الجادّة في مُكافحة الفساد، فمن البديهي أنّ ما يعرفه العَاملون عن مُؤسّساتهم لا يَستطيع كائنٌ من كان أن يعرف (رُبعه)، مُنوِّهاً إلى أنّ المئات إن لم نقُل الآلاف من العاملين بالقطاعين العام والخاص يودُّون الإدلاء بما يعرفونه من فَسادٍ داخل مُؤسّساتهم، لكن السؤال مَن يحميهم؟ ويُجيب الرَّجُل: يحميهم القانون الذي تحدَّثنا عنه آنفاً، بالتالي فإذا أرادت الحكومة أن تُكافح الفَساد بـ(الكلام) فهذا شأنها، أما لو كانت جادة في مُكافحته بالفعل فيلزمها الآن تَشكيل مُفوضيّة مُكافحة الفساد التي أُجيز قانونها منذ العام 2016م لكنها لم تُكوَّن، علماً بأنّ محل هذه المُفوضيّة لا تحلّه إلا المُفوضيّة.. إذاً فقبل دعوة الصحفيين والإعلاميين للتبليغ بملفات الفساد وشُبهاته، فإنّ واجب الحكومة هو تَشكيل المُفوضيّة، وإجازة القوانين الناقصة وعلى رأسها قانون حماية المُبلِّغين عن الفساد بالقطاعيْن العام والخاص.. بمُوجب المادة (12) من اتفاقية الأمم المتحدة لمُكافحة الفساد؛ فإنّه من صميم دور الدولة أن تتّخذ من التدابير ما يمنع القطاع الخاص من الضلوع في الفساد وأن تصدر ضده أقسى العُقُوبات المدنية والإداريّة والجنائيّة في حال عدم الالتزام بهذه التدابير.

البرلمان وحكاية الـ(273) شركة

رئيس لجنة الحسابات والمَظالم العَامّة والإدارة والعمل بالمجلس الوطني المُهندس إسحق بشير جمَّاع، أشار إلى أنّ البعض يَعتقدون أنَّ قضايا الفساد تنحصر فقط في الاستيلاء على أموال الدولة (مادية أو عينية) وتحويلها لمصالحهم الشخصيّة، وَأَضَافَ في حديثه لـ(السوداني) هذا صَحيحٌ؛ لكن هُنَالك فَسَادٌ من نوعٍ آخر مثل أن يقوم المُوظّف العام بتحويل أموال خُصِّصت لأداء مهامٍ وأنشطة وبرامج مُعيّنة إلى أُخرى غير تلك التي خرجت من أجلها الأموال، وأشار إلى أنّ المُحاكمات التي تمَّت مَع مَن عُرفوا بـ(القطط السمان) لم تَكن رَادعةً بالحد

الذي يَجعلهم عِبرَةً لمن يُعتبِر!!

وأكّد جمَّاع، على وجود مُشكلة في عَمل الشركات والهيئات الحكومية، مُستدلاً بأنّه من ضمن (300) شركة حكومية؛ لم تنشر حساباتها الختاميّة إلا (27) شركة فقط، وهذا ما دعا لجنتهم بالبرلمان لاستدعاء مُسجِّل عام الشركات للبت في أمر هذه الشركات المُخالفة، وتَساءل عَن عَدم تَنفيذ الشّركات لقانون الشّركات الذي يَنص على عَقد كُل شركة في نهاية العام المالي جمعية عُموميّة.. وأكد أنّ ثمَّة قوانين تُشكِّل خَللاً في مُكافحة الفساد؛ مُستشهداً بقانون الثروة البترولية الذي يمنح صلاحيات لوزارة النفط تحد من صلاحيات وزارة المالية، إضافةً لوجود فجوة بين حساب البنك المركزي وزارة المالية لعدم تطابقها في الصرف والإيداع.
وقال جمَّاع، للقضاء على كل هذه الأبواب التي تقود إلى مُربَّع الفساد، لا بُدَّ من تفعيل آلية مُكافحة الفساد وتطبيق قانونها بكل حَسمٍ وحَزمٍ، مع ضرورة التّنسيق بين الجهات المُختصة حفاظاً على المَال العَام وإنفاذ أيلولته لوزارة المالية.

كلُّ عامٍ تُرذلون!!

من ناحيته، قال أستاذ الاقتصاد بجامعة الخرطوم د. عبد الحميد الياس لـ(السوداني): قبل دعوة الصحفيين والإعلاميين بتقديم معلوماتٍ وملفاتٍ حول قضايا الفساد وشُبهاته المُختلفة، نُؤكِّد أنّ جهاز الأمن واقعاً وافتراضاً يَنبغي أن تَكُون كل ملفّات الفَساد تَحت يَده.. وحتّى في حَال عَدم حُدُوث ذلك لأيِّ سبَبٍ، فتقارير المراجع العام تُوثِّق للفساد وكل التجاوزات سنوياً، لكن ما هي النّتيجة النهائية؟ الإجابة لا تحتاج لكثير اجتهادٍ، لأنَّ الحال يزداد سُوءاً و(كل عامٍ تُرذلون).. ومع ذلك لم نرَ فاسداً تم حسابه، وحتى بعد الحملة التي شُنَّت على الفساد مُؤخّراً، أكثر ما َخلد في ذاكرة الناس أنّ محكمة الفساد نظرت في قضية سائقيْن سرقا مروحتين من مُستشفى، في حين أنّ رجل أعمال معروف قد أُجريت معه تسوية شهيرة

بخمسين مليون دولار!!

وبحسب د. عبد الحميد الياس، فإنَّ أكبر عمليات الفساد تدخل عبر بوَّابات الشّركات الحكوميّة التي عَجَزَ حتى المُراجع العام والمجلس الوطني في معرفة أصحابها الحقيقيين وكأنّها (أشباح ظلام)، وقال: هنالك من ينتظرون بفارغ الصبر، بل يُطالبون ليل نهار بتكوين مُفوضيّة مُكافحة الفساد بعد أن أُجيز قانونها منذ 2016م وكأنَّه مُجَرَّد تكوينها (سيمشي) العدل بين الناس و(يموت) الفساد، علماً بأنّها – في تقديري – ستكون لافتة وعربات ومُرتَّبات بدون عمل، ربما تزيد العبء بهدر أموال الشّعب السُّوداني.

أسباب ذاتيّة وموضوعيّة

د. إسماعيل الحاج موسى عاد ليقول: في تقديري المُراجع العام يقوم بالدور المُنوط به، لكن التقارير التي يكشفها كل عام تُؤكِّد بما لا يدع مجالاً للشك أنّ هنالك (تراخياً بائناً) من الجهازين التشريعي والتنفيذي بدليل أنّ (القصة) تنتهي بانتهاء مراسم العرض بـ(قُبَّة البرلمان).. ويمضي الرَّجُل بأنَّ ثمَّة خللاً آخر يُوجد في ما يتعلّق بإبراء الذمة التي ربما تكون غائبةً تماماً عنا، وحتى إنْ وُجدت فهي لا يتم التحقق من تفاصيلها لدى المُبرَّأة ذمته، وإن تم ذلك فلا تُوجد مُتابعة جيدة لما بعد التحقق، وأشار إلى أنّ التهاون في مُكافحة الفساد تُشجِّع الآخرين من ضعاف النفوس على السَّير في ذات الطريق، بل بصورةٍ أشرس وأخطر.. مُوضِّحاً أنّ ظاهرة فساد بعض المسؤولين تعود إلى أسبابٍ ذاتيّةٍ وموضوعيّةٍ، فالذاتيّة مردَّها يرجع للأخلاق بحيث أنّها كلّما ضعُفت، زاد فساد الشخص.. أما الموضوعية فتتعلَّق بضعف الرقابة وغياب الحساب!!

عودٌ على بدء

وبالعودة إلى البدايات، نجد أنَّ قضية مُكافحة الفساد انطلقت عام 2015م عبر خطاب قدَّمه أمام نُوَّاب المجلس الوطني؛ الرئيس عمر البشير، أعلن خلاله عن قيام مُفوضيّة قومية لمُكافحة الفساد خلال الفترة المُقبلة من حكمه، وتعهّد بمُحاربة الفساد عبر هيئة تكون تبعيتها له مُباشرةً، وبعد عامين من ذلكم الخطاب، أي في خواتيم عام 2017م أعلن رئيس الوزراء القومي – وقتذاك – النائب الأول بكري حسن صالح، عن مُشاورات تُجرى لتشكيل مُفوضيّة مُكافحة الفساد وتكوين لجنة تضم ستة أشخاص، وتتبع أعمالها لرئيس الجمهورية والمجلس الوطني، وذلك لضمان استقلاليتها وتأكيد دورها الرقابي، على أن تكون المُفوضيّة مسؤولة عن توفير الحماية اللازمة للمُبلِّغين والشُّهود والخُبراء في قضايا الفساد وأقاربهم والأشخاص وثيقي الصلة بهم، من أيِّ اعتداءات أو عمليات انتقامية أو ترهيب وذلك بتأمين مناطق إقامتهم وأماكن عملهم، وأن تتكوّن المفوضية من رئيس وستة أعضاء يتم تعيينهم بواسطة رئاسة الجمهورية ومُوافقة المجلس الوطني، شريطة تحلِّيهم بالكفاءة والخبرة والحِيدة والاستقامة والنزاهة، ويُشترط فيهم التفرُّغ وعدم تأدية العمل التجاري مُباشرةً أو عن طريق وكلاء، بينما يُشترط في رئيس المُفوضيّة الخبرة بما لا يقل عن عشرين عاماً.. وبطبيعة الحال فقد حُظي ذلكم الإعلان وقتها بقُبُول لدى جهاتٍ عدة كانت تَعمل في مجال مكافحة الفساد، حيث تَمّ وصف الخُطوة بالإيجابية والأفضل لمُحاربة ومُكافحة الفساد، بشكلٍ مُقنَّنٍ عبر مُفوضية تملك سُلطات وصلاحيات واستقلالية كاملة في أداء مهامها بلا ضُغوطٍ ماليةٍ أو سياسيّةٍ من جهات مُتنفِّذة بالحكومة، بعد إلغاء آلية مُكافحة الفساد بقرارٍ جمهوري بداية العام 2013م.

الخرطوم: ياســر الكُـردي
صحيفة السوداني.

Exit mobile version