بدأت الهوجة “الثورية” الحالية بسقف عال جدا، ولكن سرعان ما جاءت لحظة الحقيقة، والحقيقة هي : انها مجرد احتجاجات مصنوعة علي قاعدة نفسيه عامه غير محددة المعالم و الحدود تقوم واجهة “تجمع المهنيين” بتنظيمها، وتتفرق بعد لحظات إلى درجة أن أكثر القنوات الفضائية الداعمة لها لم تستطع أن تطلق عليها اسم “ثورة” و لم تجد بد من وصفها “بالاحتجاجات”.
بداية الأحداث واكبتها شائعات مبالغ فيها على صعيد، فكك النظام وانهياره وصلت إلى الخلافات وسط الحاكمين وتبادل اطلاق النار بينهم، وفرض الإقامات الجبرية، إضافة إلى المحاولات الانقلابية وانحياز الجيش إلى المحتجين، بالاضافة الي شائعة هروب المسئولون.
هذا السقف العالي تسبب في احباط كبير عندما طارت السكرة وأتت الفكرة، لذلك تركز الخطاب الإعلامي للجهات الراعية على محاولات التعويض النفسي، فكان الخطاب التعزوي هو سيد الساحة، وسنستعرض بعض الأمثلة لحيل التعزية التعويضية الهادفة السيطرة على القلق والخروج من حالة الاحباط، ثم التكيف وخلق سعادة وهمية، وهذه الحيل عادية ويلجأ لها الشخص السوي وغير السوي، والفرق في وجودها باعتدال عند السوي، وبإفراط عند اللاسوي إلى درجة خلق واقع موازي يعيش فيه متجاهلا الواقع الحقيقي، والحيل الدفاعية كما يقول علماء النفس تشترك في أمرين هما “انكار أو تحريف الواقع” و “تعمل لدى الأفراد بشكل لا شعوري في الحالات العادية”،و هدفها الاساسي حماية الذات من التهديد “التهديد بسبب الحقيقة المفارقه للمرغوب”.
وهذه الحيل بحسب علماء النفس يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام :
1ـ حيل الدفاع الانسحابية “الهروبية” : الانسحاب والنكوص والتبرير والانكار والتخيل والالغاء والسلبية والتفكيك.
2ـ حيل الدفاع العدوانية “الهجومية” العدوان والاسقاط.
3ـ حيل الدفاع الابدالية: الإبدال والإزاحة والتحويل والإعلاء والتعويض و التضخيم والتهوين والتكوين العكسي والرمزية والتكوين المثالي.
كل هذه الحيل النفسية غرضها حماية الذات من التهديد و تقليل الاحباط و القلق عبر ايجاد ماؤي او ملجأ نفسي يحميه من الموقف الذي لا يستطيع مسايرته في الوقت الراهن، او بديل نفسي يقيه عندما لا تكون لديه الشجاعة الكافيه في النظر اليه بواقعيه.
من هذه الحيل : “الكبت” : ابعاد لشئ ما من الوعي، شئ يشقى به الفرد، وهنا نجد أن خطاب “الثورة” يتجاهل الحقائق الصلبة المتمثلة في عدم اعتراف العالم بأنها ثورة وعدم طلب أي دولة من النظام أن يتنحى، وحقيقة أن النظام لم يهتز والأمور تسير بشكل طبيعي، وأيضا يتجاهل فشل اضرابات الأطباء والمعلمين والصيادلة، فالمرضى يجدون من يعالجهم وعندما يذهبون للصيدليات يجدون من يبيعهم الدواء، والطلاب يجدون من يعلمهم، هذا الواقع يسبب لأنصار الاحتجاجات احباطا شديدا يعوضونه بترويج أخبار الوقفات الاحتجاجية، ايراد صورة قديمه من 2013 لصيدليه مغلقه مضربه عن العمل “اسقاط تضليلي”، ايراد صورة لطوارئ مستشفي فارغه “حيل خداعيه”،و غيرها كثير.
“التكوين العكسي”: اظهار الفرد نزعة سلوكية معاكسة لحقيقة النزعات التي تحرك سلوكه، ولعل في قصة فرناندو البرازيلي المصنوعة والمخدومة جيدا والتي تم توزيع ادوارها بين عدة اطراف : سياسية اقترحت القصة، فنية وفرت الصور، أدبية كتبت الشعر، إعلامية صنعت الحواشي المكملة وروجت، وطبية حددت سبب الوفاة ، طبيبه اخري تم ادعاء انها اخته و انها وجدت اخاها فجأة مسجي امامها بدمائه في طواري المستشفي التي تعمل فيها “التراجيديا الصادمه”، بنت تدعي انها ابنه عمه “تبني نفسي”، والنزعة المعلنة هي نزعة التألم لوفاة محمد العبيد “فرناندو”، بينما النزعة الحقيقية هي نزعة الفرح بقضية من هذا النوع تفيد الحراك جدا، والمؤكد أن بعضهم أصيب بإحباط شديد عندما ثبخر هذا المجهود الجماعي وظهرت الحقيقة.
“الاسقاط” :نسبة عيوب الذات للآخرين، وخير مثال لذلك الحديث عن هروب قادة النظام،، بينما الحقيقة هي هروب بعض النشطاء خوفا من الاعتقال، ومن اجل تحريض الآخرين على الاحتجاج وعدم الخوف من الاعتقالات.
“التعويض”: محاولتهم تعويض فشلهم في تحقيق الهدف الأساسي عبر الحديث عن نجاحات “حقيقية أو متخيلة”، في تحقيق أهداف فرعية، والأمثلة على ذلك كثيرة منها القول بأن “الثورة لا تموت” و”الثورة حققت اهدافها “و” الثورة اجبرت النظام علي تغيير خطابه و علي فتح محلات الشيشه “و” الثورة صارت في كل البيوت و في كل رياض الاطفال”و” الثورة عرت النظام” حتي يقع لباسه، و “الثورة ناجحة جدا و شوفوا البشير وزنه نقص و عروق وشو نطت “و” الثورة انتصرت والآن الحكومه قروشها قطعت و ما عندها مصاريف الاسبوع الجايي “و” الثورة نجحت وجعلت دول الجوار تمتنع عن اقراض النظام”.. إلخ .
“التسامي”: تحويل الطاقة الغريزية السلبية إلى عمل عظيم ممتاز : رفض الشيوعيين والبعث وحركات التمرد للحوار ليس هو رغبة في اسقاط النظام والوصول إلى فترة انتقالية طويلة يتمكنون فيها من السيطرة على الأوضاع بما يفوق حجمهم، بل هو من أجل الشعب السوداني وتحقيق تطلعاته.
“الرمزية” : صناعة وتكلف مثيرات وتحميلها بمعاني رمزية مبالغ في اهميتها: رافع العلم وهو مقبوض عليه، انتظروا الباعة يجمعوا بضاعتهم، جمعوا أموال لصاحب سيارة تكسر زجاجها، انقذوا العسكري بعد انقلاب سيارته، صور توزيع طفل للطعميه للمتظاهرين، صور ايواء في البيوت و تقديم وجبات …. إلخ
“التقمص”: تقمص شخصية المنتصر، وتبرير حالات الهزيمة ورد الأسباب إلى عوامل خارجية.
فقرة اخري : حيل التحريف و التشويه : اعادة تشكيل الواقع و الحقيقة بما يوافق هواه، و بالتالي لا تسبب له القلق، نجدها في صور الانجراف في السطحيه عند التعليق علي جزئيات الاخبار و استهجان المواقف المنزوعه من سياقاتها في شكل التقاط صور لمسئولين او تجمعات حشود مضادة او تصريحات مسئولين او زيادات لفبركات اجزاء مقتطعه من اقوال و افادات و اعادة استخدامها لضرب النظام عبر اعمال السخريه فيها بصورة تشويهيه تسطيحيه او محاولة ضرب التصريحات و الصور مع بعضها البعض لتخدم اغراض نفسية سريعة.
“التحويل و التنفيث” : تحويل الإنفعالات والصراعات الداخلية والدوافع المكبوتة والاحباط إلى أعراض جسمية ” هستيريا” : تفشي حالات الصياح وسب الدين في تسجيلات البث المباشر “الضي”.
” العدوان و التفريغ” : يقوم الشخص في سبيل التخلص من التوتر؛ يقوم بممارسة هجوم شرس علي من يعارضه في بعض وجهات النظر، او من يتوهم انه يتخاذل عن نصرته من جمهور الصامتين او المراقبين، يمارس هجوما شرسا عدوانيا متعديا علي هولاء و اولئك، بصورة لا تتناسب مع الوقائع، مثلا في الحد الادني نجد التلويح بالتخوين و النعت بالسير عكس ارادة الامه و الخور و الذله و الخضوع للمهانه، التهديد بالعزله و الفصل، الهجوم الشخصي المباشر، الهجوم بالسخريه و الالفاظ الحادة، محاولة عزله و تخويف الاخرين منه، و غيرها؛ و هو بهذه السلوكيات و التصرفات انما يريد اشباع رغباته الذاتيه في الانتقام، او تضميد جراحه النفسيه في محاولة للتغلب علي الاخفاق و الاحباط و الفشل.
وهكذا يتضح أن القوم في مرحلة احباط يعبر عنها مجمل سلوكهم وخطابهم في هذه المرحلة.
بقلم: المحلل السياسي والنفسي: “ابراهيم عثمان”