دخل عدد مقدر من الأطباء الاستشاريين والاختصاصيين والنواب والعموميين وأطباء الامتياز في إضراب عن العمل بالمستشفيات الحكومية والخاصة ، عدا أقسام الطوارئ !
و يُبرر السادة الدكاترة لأنفسهم بالتوقف عن مساعدة المرضى المساكين ، بأنهم مضربون عن (الحالات الباردة) فقط ، بينما يعملون في علاج الحالات الطارئة ، مثل إصابات حوادث السير ، إصابات المظاهرات ، حالات التسمم ، لدغة العقرب ، الإغماءات وغيرها !!
ولكن دعونا نسأل السادة الدكاترة بمختلف تخصصاتهم : هل إضرابكم المستمر بدرجة مشاركة متفاوتة ، منطلقاته سياسية ، بحيث هو جزء لا يتجزأ من حِراك (تجمع المهنيين) المعارض ، وهدفه إسقاط النظام ؟ أم أنه إضراب متعلق بأسباب مهنية متعلقة ببيئة العمل ووضع الأطباء وحمايتهم وحماية المستشفيات من أية اعتداءات فردية أو مؤسسية طرفها أحد أطراف السلطة ، كما حدث في مستشفى أم درمان ذات ليلة من ليالي الاحتجاجات التي دخلت أسبوعها السابع ؟!
إذا كان إضراب الأطباء سياسياً ، وهدفه إسقاط النظام ، فإن ما نعلمه أن (تجمع المهنيين) الذي يقوده أطباء وصحفيون وأساتذة جامعات شباب مثل الطبيب “محمد ناجي الأصم” لم يرتق بعد في سلم الثورة إلى عتبة الإضراب العام والعصيان المدني ، لأنها مرحلة متقدمة تحتاج إلى ترتيبات معقدة وكثيفة ، وقد جربت المعارضة هذا الخيار الشاق في العام 2016 ، لكنها فشلت عدة مرات في تحقيق الحد الأدنى من (نِصاب) العصيان المدني ، ولهذا اتجهت إلى الخيار الأسهل وهو التظاهرات وصولاً لحالة احتقان سياسي و أمني يستلم بعدها الجيش السلطة ويشكّل حكومة انتقالية .
فهل الأطباء دخلوا في مرحلة (العصيان المدني) مبكراً ، في إطار (التجريب) وترتيب (البروفة) للمرحلة التي تتلجلج المعارضة في الإعلان عنها ، مخافة الفشل ؟!
وما ذنب الآلاف من مرضى ضغط الدم والقلب والسكر المصابين -مثلاً – بـ(غرغرينة) في القدم – سلّمهم و سلّمكم الله – ليتعرضوا لمضاعفات خطيرة قد تودي بحياتهم ، وهم محسوبون ضمن (الحالات الباردة) ؟!
ما ذنب المصابين بالآلاف في كل أنحاء السودان بكسر في (المخروقة) ، وينتظرون عمليات عاجلة تنهي آلامهم القاسية ، رغم عِلمنا بأخطاء كثيرة ارتكبها جراحون في إجراء هذه الجراحة الدقيقة ، تظهر آثارها بائنة للعيان في حركة هؤلاء ومشيتهم بعد العملية ، ما ذنبهم .. وما شأنهم بثورتكم ومشروعكم النضالي ؟!
وتُضرِبون عن أقسام (العيادات المُحوّلة) وفيها مرضى لا تقل حالاتهم خطراً عن مصابي الطوارئ ، حيث خضع مرضى بالآلاف لعمليات جراحية مختلفة ، ولم تبرأ جروحهم بعد ، ما زالوا في طور المراقبة والمتابعة وإزالة (الخيوط) ، فيضطرون لمكابدة الألم ومغالبة الأنين ، وأنتم سادرون في غيكم ، نزعتم (روب) الأطباء ، وحنثتم بقسم ” أبقراط ” المُطوّر الذي يلزمكم بصون حياة الإنسان في كل أطواره وفي كل الظروف والحالات ، وأصبحتم سياسيين و(ثواراً) متخفين في معاطف بيضاء !!
إن كل طبيب يتقاعس ويتباطأ في علاج مريض أو مصاب شاكته شوكة ، دعك من جريح محوّل من كردفان أو دارفور أو النيل الأزرق ، سيسأله اللهُ المنتقم الجبار .. يوم لا سائل من حكومة أو معارضة ، إلا هو ، لِمَ لمْ تعالج هذا الجريح ؟
إنه إضراب معيب وغريب ، فلا هو سيسقط الحكومة في محلية “أم كدادة” ، دعك من حكومة محلية الخرطوم ، ولا هو سيحقق مطالب مهنية لم يرفع المضربون بها مذكرات !!
ورغم هذه العتمة ، تسطع نجوم باهرات ، فالتحية والتجلة لرموز وضيئة ومشرقة في قطاع الأطباء ، إنجازها يُحدّث عنها ، دون إدعاء نضالات وتسييس لقضايا مهنية ، فقد أدهشني مستشفى “أحمد قاسم ” و أنا أزوره لأول مرة ، مساء أمس ، ضمن عدد من الزملاء رؤساء التحرير لعيادة الفنان الكبير “علي مهدي” ، عافاه الله ، فمستوى النظافة رفيع ، والخدمة فيه راقية تعلو على العديد من المستشفيات الخاصة . لابد أن نهنئ مديرة المستشفى دكتورة “هدى حامد”، التي لا أعرفها ولم أقابلها في حياتي، ولكني قابلت فعلها وأثرها في “أحمد قاسم” ، والشكر للمدير الطبي المناوب دكتورة “شيماء” التي خالفت ثقافة (العجرفة) السائدة في شباب هذا القطاع ، وعكست تواضع وتهذيب الطبيب الإنسان المُحترم المُهذب الذي هو في خدمة المريض وليس سيّداً عليه .
الطلقة ما بتكتُل .. بكتُل إضراب الدكاترة .
الهندي عزالدين
المجهر