جورج كلوني والسودان .. انتهت صلاحية النضال

عام 2005، عاش جورج كلوني موسماً سينمائياً حافلاً، إذ كتب وأخرج فيلماً (غوود نايت، أند غوود لاك)، وعمل ممثلاً ومنتجاً منفذاً في فيلم ثانٍ فاز عنه بـ “أوسكار” (سيريانا). بعد هذا الصخب كلّه، وعلى حدّ تعبير النجم الهوليوودي، شعر بأنه “غير نظيف” و”عليه القيام بما يمكن أن يمنحه شعوراً أفضل”.

كان لا بدّ من رحلة “تطهر” إذاً. وكأي عضو في نادي المشاهير أو أي متبارز في مسابقات الجمال، اختار كلوني إنقاذ العالم. وعليه، حمل كتيب النشاط النضالي، وفتّش عن قضية تحدد وجهته المقبلة. عيّن اهتماماته: قضايا عرقية ودينية في مكان “لم يصله أي مراسل قبله”. هكذا دخل جورج كلوني إلى السودان.

عام 2017، قبل شهور قليلة من ولادة التوأم إيلا وألكسندر، أعاد الأب العتيد النظر في أسلوب حياته. وفي رزمة واحدة مع ما تتطلبه مسؤوليات الأبوة، قرر أنه لن يسافر مجدداً إلى جنوب السودان. هكذا خرج جورج كلوني من السودان.

وبين دخوله وخروجه، أطلق تصريحات حادة شدّدت على ضرورة محاكمة عمر البشير ووقف المجازر في البلاد، وباع سيارته الفارهة في مزاد علني إغاثة لضحايا السودان، وأصيب بالملاريا، واعتقل في تظاهرة أمام السفارة السودانية في العاصمة الأميركية واشنطن، وعقد لقاءات مع الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، واستخدم أقماراً اصطناعية في مراقبة جرائم الحرب قبل استفتاء قسّم هذه الدولة الأفريقية إلى اثنتين.

تصدر نضال كلوني المشهد الإعلامي الأجنبي. فصورة حامل لقب “الرجل الأكثر إثارة على قيد الحياة” كافية لتسويق أي قضية.

عام 2011، استراح ضمير كلوني الذي حضر بنفسه احتفالات فصل الشمال السوداني عن جنوبه، في جوبا. أنقذ النجم العالم، انطلاقاً من مسؤوليته إزاء الأشخاص الأقل حظاً ونفوذاً (لا نعرف طبعاً من حمله هذه المسؤولية). استمرار الصراعات الأهلية وذبح السودانيين وتشريدهم وارتفاع مستوى التضخم وتراجع قيمة العملة لا يؤثر على موقفه، ففي النهاية، فعل ما لم يفعله أي نجم قبله؛ أسّس دولة جديدة لأقلية مستضعفة.

عام 2018، تحديداً في الـ 19 من ديسمبر/كانون الأول الماضي، خرج السودانيون إلى الشوارع. خرجوا من أجل “العيش”، أي خبزهم وحياتهم في الوقت عينه. نظروا في عين الطيب صالح الذي كتب عام 1966 “هذه أرض اليأس والشعر، ولا أحد يغني”. غنى السودانيون يا صالح، لكن أحداً لم يسمعهم.

السودانيون وحدهم، وهذا واقع يعرفه الجميع الآن، بعد مرور أكثر من شهرين على الاحتجاجات الشعبية في البلاد.

وتزامناً مع هذه الانتفاضة، تساءلت الكاتبة السودانية، نسرين مالك، عن موقف كلوني الذي لم يتهرّب من الإجابة. وبالتهذيب والدبلوماسية والدراية التي يتصف بها العارفون، قال كلوني إنه مشغول بأمور “أهم”، إذ يلاحق أموال البشير في الخارج.

وأكد أنه قرر التركيز على حقوق الإنسان، في تغاضٍ عن كل المطاطية والضبابية التي يحملها هذا المصطلح. طبعاً، كان على المتابعين التصفيق. بأي عين يُسأل كلوني عن موقفه؟ لماذا سيعمل وفق البرنامج الزمني الذي يحدده السودانيون؟ من كان يعرفهم أصلاً قبل أن يتكلم هو عنهم؟ كلوني يعرف أكثر.

كان على كلوني القول، ببساطة، إن التظاهرات الحالية في البلاد تفتقد إلى كافة عناصر الإثارة التي شدّت العازب المتطلع نحو المغامرة قبل سنوات. ثورة شعبية اعتيادية يقودها فقراء ضد الفساد والانقسام العرقي والقلة المنتفعة والقمع الديني وتردي المستوى التعليمي والطبي. ما الجديد؟

كان عليه ألا يخجل من الاعتراف بأنه بدّل هواياته. اتجه نحو المطالعة أو ركوب الخيل أو أي رياضة أخرى. كان عليه التوضيح أن شمس السودان لم تعد تغريه، ووجهه الذي سمرته مهمة إنقاذ العالم، قبل سنوات، لم يعد رائجاً في هوليوود. كان عليه لفت النظر إلى أن القضية “الرائجة” حالياً هي التحرش والاعتداء الجنسي في هوليوود، والأقربون أولى بالمعروف. كان على كلوني القول صراحة إن هذا العالم لا يبالي بالسودانيين.

السودانيون وحدهم، وهذه حقيقة يعيشونها كل يوم، منذ عقود، قبل إطلالة كلوني المتواضعة عليهم، وبعدها.

العربي الجديد

Exit mobile version