-1- قبل عامين، كُنتُ شاهداً على مُفارقة اجتماعية مُثيرة. أسرتان عريقتان
بحي أمدرماني، اختارت كل أسرة ميداناً بالحي لإقامة حفل زفاف.
تصادف أن الأسرتين اختارتا إقامة الحفل في ذات التوقيت بميدان الحي.
تمَّت مفاوضات مُكثَّفة بين الأسرتَين بوجود وسطاء، وكل طرف يرغب في
إقناع الآخر بتقديم أو تأخير موعد زواجه لـ24 ساعة فقط.
حينما فشلت المفاوضات، وتمسَّك كُلُّ طرفٍ بميقاته المعلوم، أُقيمت
الحفلتان بالميدان في ذات التوقيت.
تداخلت أصوات المُغنِّين، وتمازجت موسيقى العازفين واضطَّرب رقص
الراقصين، وكانت النتيجة أن كُلَّ طرف أفسد للآخر حفل زفافه، دون أن يكسب
شيئاً!
قلتُ لبعض الأصدقاء: هذا نموذج مثالي يوضح كيفية إدارة خلافاتنا في كل
مناحي الحياة، السياسة والاقتصاد والرياضة، وحتى في الأنشطة الاجتماعية.
عقليتنا مُغلقة ومُعانِدة، لا تقبل المساومات الذكية التي تُقلِّل
الخسائر وتُعظِّم المكاسب، عقلية تعتبر التنازل ولو جزئياً مُؤشِّر ضعف
وخور!
لذلك عادة ما تنتهي غالب الخلافات والصراعات إلى نتائج صفرية وخسارة كبرى للجميع.
-2-
لا حديث في مجالس المدن والقرى، إلا عن الاحتجاجات الجارية حالياً، هل هي
– بعد أكثر من شهر – في تصاعد أم انحسار؟!
ربما السؤال الأكثر أهمية ويشغل بال الكثيرين ويُقلق مضاجعهم: ما الذي
يُمكن أن يترتَّب على الاحتجاجات: سقوط النظام، انهيار الدولة، ثورة
إصلاحية داخل أجهزة الحكم، لا شيء؟!!
مجموعة محدودة من الزملاء، أدارت نقاشاً مُثمراً قبل أيام بمنزل الزميل
فتح الرحمن شبارقة، عقب تقديم واجب العزاء له في وفاة أخيه الأكبر.
رغم أن النقاش بدا متوتِّراً، وارتفعت فيه الأصوات، لكنه انتهى إلى حالة
وعي عام بحساسية الوضع، وضرورة إيجاد مخارج آمنة.
-3
قناعتي، أننا نعيش في دولة ذات بناء هش، مُفخَّخة بكثيرٍ من الألغام،
تُعتبر أكثر دول الإقليم من حيث انتشار السلاح والنزاعات القبلية
والتمايز الطبقي الحاد و”التحازز” الإثني، والأطول من حيث الحروب.
هذا الوضع المُفخَّخ بالأزمات يحتاج إلى تعامل به قدرٌ من الحكمة والرشد،
يُجنِّب البلاد شرور سقوط روافع البناء الوطني على رؤوس الجميع.
قبل عام كتبتُ في هذه المساحة تحت عنوان: (لماذا لم يثر الشعب؟!!) وقلت في الخاتمة:
إذا لم يحدث الإصلاح الشامل، ويتيسَّر معاش الناس في حدود صون كرامتهم
الإنسانية، وصون المال العام من الفساد، سيخرجُ المُواطن للتَّظاهر
والمُواجهة المفتوحة، دون اعتبارٍ لما يترتَّب على ذلك.
لا بأمر الحزب الشيوعي أو غيره، ولكن إذا جاءت الساعةُ الخامسةُ
والعشرون، معادلة الصفر وأوان الآزفة ساعة اليأس وفقدان الأمل، حين يصبح
البقاء في المنازل أصعب من الخروج إلى الشارع لمواجهة كل الاحتمالات.
حينها سيصبح الموت والحياة على حد سواء.
-4-
بعد عام من ذلك التنبيه، علينا وضع تطور الأزمة الأخيرة في سياقها
الموضوعي، بتقسيمها إلى ثلاث موجات:
الموجة الأولى / احتجاجاتٌ مطلبية مُتعلِّقة بنُدرة الخبز والوقود، ذات
طابع فوضوي (نهب وحرق)، ترتَّب عليها أكبرُ عدد من الضحايا، لهم الرحمة
والمغفرة.
الموجة الثانية / دخول التنظيمات السياسية والناشطين ومُحاولة رفع سقف
المطالب من الخدمي إلى التغيير السياسي الشامل، المختزل في جملة (تسقط
بس).
أما الموجة الثالثة / فهي ذات طابع اجتماعي، مشاركة واسعة للشريحة
العمرية ما دون الثلاثين، وزيادة العنصر النسائي.
إذن، مجموعة روافد شكلت ما يحدث الآن:
أزمة اقتصادية متصاعدة، اختناق سياسي حاد، جيل شبابي مُحبط، له طموحات
جريحة وأحلام مُجهضة.
-5-
العامل الاقتصادي له الدور الأكبر في تشكيل الراهن، ويُمثِّل القاسم
المُشترك بين العوامل الأخرى.
في الجزء الاقتصادي، إذا استمرَّت أزمة الخبز، وصعوبة الحصول على الوقود،
وتصاعد أسعار السلع، وظلَّت السيولة النقدية غير متوفرة، سيكون هذا
العامل حاضراً ومؤثراً على مجريات الأحداث.
أما في الجانب السياسي، لم يعد من خيار للحكومة سوى أن تعمل على توسيع
المجال السياسي ليستوعب غالب القوى السياسية، كما حدث بعد اتفاقية نيفاشا
وعبر عنه دستور 2005.
صحيح أن التظاهرات من الراجح ألا تُسقط الحكومة، ولكنها قوَّت معارضيها،
ووفَّرت لهم حاضنة اجتماعية واسعة لم تكن متاحة لهم خلال ثلاثين عاماً.
أما البعد الاجتماعي للتظاهرات والذي من أبرز ملامحه المشاركة الواسعة
لقطاع الشباب، مع بروز الحضور النسائي، فلا توجد حلول فورية له، فهو
تراكم أخطاء سابقة.
الدعوة للحوار مع شباب الاحتجاجات غير عملية، ولكن المهم مُخاطبة مجمع
مشكلات الشباب وفهم طريقة تفكيرهم وإفساح مساحة أكبر لهم في الحياة
العامة وميزانية الدولة.
لن يكون بالإمكان معالجة الأزمة الاقتصادية في الراهن القريب، ولا حل
أزمات الشباب على المدى المتوسط، ما لم يتم علاج حالة الالتهاب السياسي،
وفك حالة الاحتقان.
وقد يصعب على الحزب الحاكم ابتدار تغيير سياسي كبير، وهو تحت ضغط التظاهر الآن.
-أخيراً-
والوضع على هذا الحال، تصبح الحاجة ملحَّة لدخول حادبين على المصلحة
العليا للوطن يجدون قبول كل الأطراف، يسهمون في فتح مسارات آمنة تُوفِّر
حلولاً مُنتجة وإيجابية.
ضياء الدين بلال