قراءة في واقع التظاهرات في السودان

-1- طوال العهد بالتظاهرات، في كُلِّ الأنظمة السياسية، ديمقراطيةً وشمولية،
لم تستمر الاحتجاجات إلى ما يُقارب الشهر أو يزيد.

في هذه التجربة الجديدة، يمضي الوضع على نحو مُغاير.

ثلاثة مُتغيّرات جديدة في هذه الاحتجاجات، متعلقة بالكمِّ والنوع والزمن:

*مجموع المُتظاهرين يُعتبر الأكبر على الأقل في ثلاثينية حكم الإنقاذ.

ومن حيث عدد جولات التظاهر، العدد هو الأكبر في التاريخ السياسي.

*أما نوعية المتظاهرين، مُختلفة من حيث العمر ومكان السكن.

غالب المُتظاهرين هم ما دون الثلاثين، مع تشجيعٍ من قِبَلِ كبار السن.
أماكن التظاهر تتراوح ما بين المناطق الرئيسة أواسط المُدن، والأحياء
السكنية غير الطرفية.

*اللافت للنظر، أن الجهة المجهولة (تجمع المهنيين)، لها صفحةٌ على
(فيسبوك) تحدد من خلالها مكان وزمان التظاهر، ورغم التعزيزات الأمنية،
تندلع الاحتجاجات في ذات التوقيت والمكان!

-2-

حتى على المستوى الميداني للتظاهر، برزت تكتيكات جديدة واستعدادات
مُتنوِّعة للتعامل مع ردِّ فعل السلطات.
من التكتيكات الجديدة، تحديد المكان الرئيس للتظاهر، مع اندلاع تظاهرات
فرعية، بغرض توزيع مجهود وتركيز القوات على مكان أوسع.

مع توزيع القُوَّات بصورةٍ مُتفرِّقة على مساحة واسعة، يتمُّ التركيز على
نقطة التقاء، يأتي إليها أكبر عددٍ من المُتظاهرين. ذلك التجمع الرئيس
الغرض منه توفُّر صورة بصرية ولو لدقائق، تحتفظ بالاحتجاجات ساخنةً على
الشاشات الفضائية وفي وسائل التواصل الاجتماعي.

يُضاف إلى ذلك أن المُتظاهرين درجوا على وضع الحجارة الكبيرة في الطرقات،
مع بعثرة مسامير على الأرض، كل ذلك لإعاقة حركة سيارات الجهات الأمنية،
أثناء المُطاردة.

مع الكرِّ والفرِّ وإطلاق البمبان، تتوفَّر للمُتظاهرين مُعينات إسعافية
لتقليل التأثُّر بالغاز.

أضف إلى ذلك، يكون للزغاريد النسائية دورٌ أكبر في رفع درجة الاحتمال.

-3-

تظاهراتُ أم درمان كانت الأكبر من حيث العدد، والأطول من حيث استمرار
الزمن واتساع مسافة التظاهرة الرئيسية. تظاهرات بحري أمس، أقلُّ من حيث
العدد وأوسع بتعدُّد الأماكن.

في بحري، سيطرت القوات الأمنية على الساحات والطرق الرئيسة، بكثافة
الحضور الأمني، وتراجع المُتظاهرين إلى داخل الأحياء.

القنوات الفضائية الأجنبية، أولَتْ اهتماماً كبيراً بتظاهرة أم درمان،
بعد سحب كاميراتها من الساحة الخضراء إلى ميدان الشهداء، ولم تُعْطَ
تظاهرة بحري ذات الاهتمام، بل أقل بكثير.

-4-

سألت زميلاً صحفياً مُراسلاً لوكالة أنباء عالمية وهو متابعٌ ميدانيٌّ
للأحداث، عن تقييمه العددي لحشد الساحة الخضراء، ومجموع التظاهرات
المضادة للحكومة، لمعرفتي بأن لهم في الوكالة محددات قياس.

أجابني الزميل، بأن الساحة الخضراء مساحتها (المخضرة) تستوعب 200 إلى
300 ألف، وأن عدد المشاركين في الحشد وقتذاك يتراوح بين 25 إلى 30 ألفاً.

أما في تصنيفهم فالاحتجاجات المُعارضة للنظام، الرئيسة منها، ما بين 500
إلى 2500.

هي مُقدَّرةٌ عندهم -حتى الآن- بدون الوسط، حيث تُعتبر التظاهرات
الكبيرة في تصنيف الوكالة ما فوق الخمسة آلاف.

-5-

من خلال مُتابعتي الصحفية، لاحظتُ أن الاحتجاجات خلال الأربعة أسابيع مرت
بثلاث موجات:

الموجة الأولى / احتجاجاتٌ مطلبية مُتعلِّقة بنُدرة الخبز والوقود، ذات
طابع فوضوي (نهب وحرق)، ترتَّب عليها أكبرُ عدد من الضحايا، لهم الرحمة
والمغفرة.

الموجة الثانية / دخول التنظيمات السياسية والناشطين ومُحاولة رفع سقف
المطالب من الخدمي إلى السياسي.

أما الموجة الثالثة / فهي ذات طابع اجتماعي، مشاركة واسعة للشريحة
العمرية ما دون الثلاثين، وزيادة العنصر النسائي، ودعم أسري للمتظاهرين
مع ارتفاع درجة الحماس.

-6-

هناك اختلافٌ في تقدير عدد الضحايا، الحكومة تقول إنهم 24 شخصاً،
والمُعارضة ترفع العدد إلى ما فوق الـ40.

جلُّ ضحايا الأحداث كانوا في الأيام الأُولى التي ارتبطت فيها الاحتجاجات
بأعمال العنف والشَّغب، ثلاثة تم قتلهم في تظاهرة سلمية بأم درمان.

التَّظاهرات الآن أقرب لحرب الاستنزاف، في الغالب الحسم النهائي فيها عبر
النقاط، لا بالضربة القاضية.

تأثيرها على الإيقاع العام للحياة محدود، ولكن في حال اتساعها
واستمرارها وتزايد أعدادها، سيُصبح الرهان على عامل الزمن، من يستسلم
أولاً للآخر؟!!

-7-

إذا لجأت الحكومة إلى توسيع دائرة العنف مع اتخاذ إجراءات استثنائية
(إعلان حالة الطوارئ وحظر التجوال)، قد تتراجع الاحتجاجات ولكن ستخسر
الحكومة كثيراً على المستوى السياسي والاجتماعي معاً.

ستنخفض شعبيتها السياسية إلى أدنى مستوى لها، بتحويل المُوالين في الغالب
إلى مُحايدين، وتحويل المُحايدين إلى أعداء.

وعلى المستوى الاجتماعي، ستكون وفَّرت لخصومها حاضنة اجتماعية واسعة،
وقاعدة انتخابية مُضادَّة للحاكمين.

الحكومة مُسيطرة على الميدان، ورُوَّاد التظاهر مسيطرون على الفضاء
الإسفيري، والاثنان يتقاسمان الإعلام التقليدي.

-8-

سيظلُّ الوضع على هذا الحال بين شدٍّ وجذب، إلا إذا تدخَّل طرف ثالث،
فزاد من تعقيد الأوضاع ونقل الصراع إلى ملعب آخر.

الأوفق للجميع الوصول إلى مقاربة حكيمة بين (تسقط بس) و(تقعد بس)، بعيداً
عن حسابات الربح والخسارة الذاتية، فالحكومة لن تسقط بالتظاهرات، ولن
تستطيع (القعاد) بارتياح مع استمرارها.

-أخيراً-
كلما تأخرت الحلول الشاملة للأزمة وطغى خيار الحل الأمني؛ فان الوضع مرشح للوصول الى ما لا يحمد عقباه، سنكون أقرب للدخول في دوامات دول الربيع العربي الدامية، إذا لم يتم
الانتقال السريع من تلك الثنائية التجاذبية (تسقط بس وتعقد بس) إلى شعار
(السودان بس).

ضياء الدين بلال

Exit mobile version