“إبراهيم” الذي عاد قبل يومين من دولة أوروبية ليقضي إجازته بالعاصمة السودانية، جاء متوجساً خيفة يعتقد أنه سيشتم رائحة البمبان والبارود منذ أن تطأ قدمه مطار الخرطوم، من فرط حديث الآلة الإعلامية بالفضائيات، والسوشيال ميديا عن المظاهرات، وتحذيرات أصدقاؤه من المهاجرين بالغرب لمايحدث بالسودان، ولكنه فؤجى وهو يشق طريقه إلى منزله بأمدرمان بالهدوء التام، وهو يشاهد من خلف نافذة السيارة التي تقله من المطار، الحياة الطبيعية لحركة الناس، وعوائل الخرطوم التي تجلس بالمطاعم والكافتريات وهي تتناول البيتزا والآيسكريم بمختلف النكهات.
نظام البشير الذي تمرّس على إجتياز الأزمات والصدمات، وكأنه في كل مرة يتدرب على مرحلة أصعب، أصبح خبيراً في الحروب والقمع أكثر من أي نظام عربي أو إفريقي.
وقد عرف كيف يتعامل مع المهددات الصعبة التي لاقته طوال حكمه الذي إستمر لثلاثة عقود، لاقى فيها مختلف صنوف المصاعب والتحديات من حروب مشتعلة في الجنوب والغرب والشرق، والعشرات من الحركات المسلحة التي رفعت في وجهه السلاح، حتى وصلت معقله في الخرطوم، فقضى عليها وسط دهشة أعدائه في الداخل والخارج.
وتأتي مظاهرات “ديسمبر ويناير”، بعد خمس سنوات من مظاهرات سبتمبر 2013 المعروفة اصطلاحا بـ هبة سبتمبر، التي راح ضحيتها العشرات في ظل احتجاجات شعبية على رفع الدعم عن المحروقات والدقيق، والتي انخمدت ببقاء النظام، ومن حُسن حظ نظام البشير أن ذات الرجل الذي حقق الإنجاز الأمني الكبير بصده لمقاتلي حركة خليل، عندما اجتاحت مدينة أم درمان سنة 2008، والذي كان من أكبر التحديات الأمنية حينها للنظام، هو ذاته من يدير بإحترافية ودهاء، وتكتيك، قمع المظاهرات الأخيرة.
المسؤولون في الخرطوم يعتبرون أن المظاهرات التي اندلعت في 19 ديسمبر 2018 بإحتجاجات مشروعة على أزمة الخبز والسيولة، قد إنحرفت عن مطالبها التي بدأت بها، بعد أن إعتلت صهوتها ما يصفهم النظام “بقوى اليسار” من شيوعيين وبعثيين وحركات مسلحة، إستغلوا تذمرالشارع، وبعض الساخطين على البشير بالداخل والخارج، ليطالبوا بإسقاط النظام ورحيل البشير، وقد ظهر ذلك جلياً في ظهور جسم جديد غير معروف من قبل يُسمى “بتجمع المهنيين” هو من ينظم هذا الحراك لتحقيق أجندة سياسية.
وبحسب مصدر أمني لـ “كوش نيوز” أن السلطات الأمنية لم تضطر حتى الآن للإنتقال إلى الخطة “ب” في العاصمة الخرطوم والتي تتطلب إعلان حالة الطوارئ وحظر التجوال، ونصب إرتكازات ونقاط تفتيش بالشوارع، كما أن الكتيبة الإستراتيجية لتأمين العاصمة لم يُستنفر منها أكثر من 25%، مما يعني أن التقديرات الأمنية لتفاقم المظاهرات وحجمها لن يرق لذلك.
وقد طالت الإعتقالات معظم قادة هذا الحراك بالداخل، حتى أصبح معظم من يأجج الشارع من هم بالخارج ، بحسب مصدر أمني لـ “كوش نيوز”.
وبحسب إفادات مراقبين، أن نظام البشير قد إمتص الصدمة الأولى، فشرارة الثورة الحارقة في أولها قد خمدت جذوتها، وما يحدث حالياً هو حراك سياسي لن يفض إلى نتائج، مع إنحسار واضح في أعداد المشاركين في التظاهرات بعد القمع المفرط والقتل الذي تعاملت به السلطات الأمنية، فسكان الخرطوم التي يقارب عددها الـ 15 مليون نسمة، لازال من يخرجون بين حينٍ وآخر العشرات والمئات بحسب وصف وكالات أنباء عالمية، وهذا ما يعكس عدم التجاوب المتحمس من الشارع، بعقد عملية حسابية نسبية، وذلك لعدة أسباب.
ويذهب محللون إلى أبعد من ذلك، أن هذه المظاهرات ستعطي نظام البشير الذي كان ذاهباً مترنحاً لصناديق الإنتخابات في 2020، مزيداً من الأكسجين لإطالة عمره، من خلال ما يكرر ويسوق النظام للمواطن أن بديله هي الفوضى والخراب، وإنفراط عقد الأمن، ونظام علماني يخالف توجهات، السواد الأعظم من المجتمع السوداني المحافظ، كما إستفاد نظام البشير، من بعض المساندة الدولية، والعراك والمطالبات بإقصاء البعض بين قوى المعارضة، وعدم التنظيم والخلاف على الكبش والصيد والثمار، الذي طفح على السطح من قِبل قادة الحراك، الأمر الذي قد يجعل من هذه التظاهرات بمثابة تجديد “حقن مناعي”، في مستقبله ضد أي مهددات.
الخرطوم (كوش نيوز)