(تسقط وتقعد) بس!
-1- انتبه حزب المؤتمر الوطني أخيراً، لأمر لم يكن يوليه اهتماماً، حتى أصبح حاضراً في الواقع كأزمة قابلة للانفجار.
انتبه لوجود قطيعة جيلية، تشمل الجوانب السياسية والاجتماعية والثقافية، تفصل بينه وشريحة الشباب، ذات الحضور الأكبر والصوت الأعلى في المجتمع.
آخر تعداد سكاني أثبت أن السودان قُطْرٌ شاب، إذ تتراوح أعمار ساكنيه بين الخامسة عشرة والخامسة والستين.
تُقدَّر نسبة هذه الشريحة العمرية بحوالي ثلاثة وخمسين بالمائة تقريباً من إجماليِّ السكان.
أما الذين تقلُّ أعمارهم عن الخامسة عشرة، فتُقدَّر نسبتهم بقرابة ثلاثة وأربعين بالمائة.
في حين نسبة من تزيد أعمارهم على الخامسة والستين عاماً حوالي ثلاثة بالمائة فقط!
جيلٌ ينام على ألحان مادونا، ويصحو على أغاني “الرّاب”، يرقص مع طه سليمان وتُبهجه عوضية عذاب!
-2-
الدكتور عبد الرحمن الخضر، نادى في تصريحات صحفية بضرورة تعميق الحوار مع المُكوِّنات السياسية والمُجتمعية المختلفة (خاصة الشباب والقطاع الواسع غير المُنتمي وإعداد الخطاب المناسب).
ما ذكره الخضر بمثابة اعتراف جهير بأن حزبهم لا يملك الخطاب المناسب لمُخاطبة الشباب.
الحقيقة الساطعة، أن القطيعة الجيلية لا يعاني منها حزب المؤتمر الوطني وحده.
بتوسيع عدسة الكاميرا، سيتَّضح أن بقية الأحزاب التاريخية، اليمينية واليسارية، تُواجه ذات المأزق ويُهدِّدها نفس المصير!-3
بمتابعة أدقِّ، سنجد غالب الشباب المُنخرطين في انتماءات تنظيمية مُنقسمين إلى قسمين:
أصحاب الميول اليمينية المُتديِّنة، استوعبتهم الكيانات السلفية. وبإمكانك ملاحظة ذلك في أنشطة الجامعات المُختلفة، خاصة بالكليات التطبيقية.
وأصحاب الميول اليسارية، أعداد مُقدَّرة منهم، مضوا في اتجاه الحركات الإثنية والمناطقية.
حزب المؤتمر السوداني، ورث غالب تكوينات اليسار العريض القومية والشيوعية، وهو الأكثر فاعلية ونشاطاً في العمل المُعارض خارج أسوار الجامعات.
-4-
في لقاء إعلامي قبل أشهر، وضع الدكتور إبراهيم صديق يده على موضع العلَّة، حين ألقى بجملة ذهبية في حضرة الدكتور فيصل إبراهيم نائب رئيس حزب المؤتمر الوطني: (نحن نتحدث بلغة قديمة لجيل جديد)!
عندما استمعتُ لجملة إبراهيم صديق، تذكَّرت حواراً دار بيني أنا الواقع في مدار الأربعين، ومجموعة من الفتيات دون العشرين.
ولأن الصحافة فرضت علينا لغتها ذات الطابع الإخباري، حتى في الحديث الاجتماعي، فاجأتني إحداهن وهي تقول: (يا عمو كلامك غريب، في إمكانية لترجمة على الشريط؟!).
شعرتُ وقتها بسعة المساحة الفاصلة بيني وبينهن، حتى غدا حديثي مبهماً وربما مُملّاً!
-5-
غالب الأحزاب السياسية، وفي مقدمتها المؤتمر الوطني، لا تمتلك شفرة الحوار مع جيل جديد صاعد، له قاموسٌ مُختلفٌ ولغةٌ خاصة، وأحلام وتطلُّعات مُتجاوزة للمعروف والمألوف والمُعتاد.
جيلٌ يأتي إليه العالم على جهاز هاتفه الصغير، فتتَّسع لديه دائرة الرؤية، فتفيض العبارة رمزاً وإيحاءً، فتسري على إيقاع (التيك أوي) ومذاق (الميلك شيك)!
جيلٌ لا يعرف “منزول” ولم يسمع بـ”جكسا”، ولم يشاهد “الضب” و”بشارة”، ولم يستمتع بإبداعات “الدحيش” وسامي عزالدين .
جيل فتح عينيه على سماوات النجوم، يشجع برشلونة وليفربول، يبتهج مع ميسّي، ويحزن لإصابة محمد صلاح، ويغضب من سيرجيو راموس.
جيلٌ يسخر من غزَل الحقيبة وإيقاعات الدلوكة والتمتم، لم يُطربْه شجن عثمان حسين ودندنة عشة الفلاتية ولا مطولات أم كلثوم.
جيلٌ ينام على ألحان مادونا، ويصحو على أغاني “الرّاب”، يرقص مع طه سليمان وتُبهجه عوضية عذاب!
-6-
جيل ألحقته ثورة التعليم بالجامعات، وكثيرون منه درسوا وسهروا وتعبوا، وخرجوا إلى الحياة العامة بأجنحة البرق وأحلام العصافير، ليجدوا خياراتهم مُغلقة والمُتاح محدود، بين بيع الرصيد وقيادة الركشة والجلوس مع ستات الشاي!
جيلٌ بكُلِّ هذه المواصفات والاهتمامات والطموحات الجريحة، يجد أمامه صفوف الخبز وشُحَّ الوقود وندرة النقود، كيف لا يحتجُّ ويغضب؟!!
كيف لا يشتري من السياسيين شعاراً عدمياً قوياً الجرس مثل (تسقط بس)، وهو غير مشغول بإكمال السؤال: ثم ماذا بعد؟!
جيل لم يرث من الجيل القديم سوى الفكر الإقصائي المُغلق، وهو ما تُعبِّر عنه الشعارات (تسقط بس وتقعد بس)، عقولٌ غير قابلة للمُساومات ولا ترضى بالتنازلات، فلن تصل إلا لمُعادلات صفرية (يا فيها يا اطفيها)!
-أخيراً-
لا بدَّ من قراءة اجتماعية وثقافية للاحتجاجات، تبحث عن جذر الأزمة قبل مذاق الثِّمار، تفعل ذلك قبل البحث عن خيوط المُؤامرة السياسية والأمنية!
ضياء الدين بلال