بدأ الكاتب محمد الساعد مقاله المنشور بصحيفة “عكاظ” قائلًا، لا زلت أتذكر المقاهي الشعبية في مدينتي الطائف بأشكالها التقليدية وتفاصيلها وألوانها البهية المختلفة، وكأني أستطيع رسمها في خيالي دون عناء، وهي ألوان تتداخل وتتشابك لكنها لا تتنافر بل تضفي على المكان جماله اللافت، يحتضنها بناء بسيط جزء صغير منه مغطى والباقي تحت رحمة الشمس والهواء البارد، مقاعد من الحبال المغزولة المشدودة بين الأذرع الخشبية على الأطراف، وجلسات رباعية بينها طاولات طويلة، ووجوه لبسطاء تنظر في البعيد لفحها الشمس والبرد، وعلى جبينها شقوق الوجع وتعب السنين، شفاه مبتسمة لا تعرف غير السلام والكلام الطيب، وعيون بريئة لا ترى غير الخير والسلام، آخر أحلامهم أن يعودوا إلى أسرهم ذات صباح محملين بالهدايا وشيء من المال يقيل عثرات الزمن، وفي الطرف منهم تتعالى أصوات العاملين وهم يحملون الشاي «أبو أربعة» القادم من مطبخ صغير مكسو ببلاطات بيضاء، وربما إفطار لمن حالفه الحظ وعنده بضعة ريالات.
مواقف «الرويكب»
وتابع الكاتب، كانت تلك المقاهي منتشرة في الحارات بين البيوت، وفي أماكن الترحال والالتقاء عند مواقف «الرويكب»، وهي لمن لا يعرفها محطات يتجمع فيها أصحاب التكاسي واللوريات لنقل المسافرين وحوائجهم بين المدن، حينها لم يكن الكثير يمتلكون السيارات ولا يستطيعون، وهي أول مكان يصل إليه أهالي القرى والبوادي والأرياف القادمون للمدن حاملين معهم أحلامهم وحاجاتهم باحثين عن المستقبل ولقمة العيش، بالطبع أنا أتحدث هنا عن السبعينات الميلادية وما قبلها عندما كانت تنتشر في معظم حواضر السعودية تلك المحطات، وعلى جوانبها مقاه شعبية هي ملتقى المسافرين ومهوى الأفئدة.
الراحلين والقادمين
وأضاف في مقاله الذي كتبه بعنوان ” انتهاء عصر الشيشة !” قائلًا، في تلك المقاهي يلتقي الغرباء يتحدثون ويجدون من يأخذ بخواطرهم وأيديهم، فيها كانت تتشكل حياة الراحلين والقادمين لعالم المدن، ومنها يتلقون رسائل الأهل والأحباب، ولأنها كذلك فقد تحولت إلى فنادق الفقراء، إذ يستطيع القادم إليها النوم على مقاعدها ليلة أو ليلتين أو ما شاء له الله حتى «يتعزب»، ويتسهل له عمل، عندما كانت الناس تسعى للعمل وترتحل إليه من مدينة إلى أخرى.
أبرز معالم المقاهي
وذكر “الساعد”، كانت أبرز معالم المقاهي «الشيش» بروائحها وأصواتها و«لياتها» الطويلة الممدودة بين الكرويتات، وأنفاس الناس وحكاياتهم التي يروونها لبعضهم البعض، تحلق في المكان لا تريد أن تغادره، كل ذلك اندثر كليا وما عدنا نراه، لكن الشيشة نفسها صمدت طوال خمسين أو أربعين عاماً تالية في البيوت وبعض المقاهي النائية، ومع ذلك ها هي تلفظ أنفاسها الأخيرة وفي الطريق إلى زوال لا رجعة فيه، فما عاد لها مكان بين الأجيال الجديدة التي تراها عبئا عليها أو لنقل إنها لا تتناسب وطريقة تفكيرها الحديث، أيضا يجب أن لا ننسى أن الشيشة ارتبطت بعادات وأحوال تلاشت هي الأخرى وكأنها تنبئنا اليوم بانتهاء تلك الحقبة تماما.
اندثار الشيشة
واختتم الكاتب مقاله قائلًا، اندثار الشيشة يعني انتهاء عصر كامل بكل نكهته وروحه وناسه وعاداته وشكله وسمته الذي عرف به، و لم يبق منه سوى شيء من روائحه وقليل من المتعلقين به هنا وهناك، إنه عصر جديد بالفعل يبدو أن لا مكان فيه لمن لا يزال ينتمي لتلك المقاهي «التقليدية» وطريقة عيشها، هذا المقال يرصد التحولات والاستبدالات ويربطها بتغيرات عميقة في عادات وسلوكيات الناس التي لا تكاد تستقر حتى تتغير، وهو أيضا لا يبكي المقاهي ولا يندب حظها العاثر بعدما أعطت الناس من حياتها ودفئها واحتضنتهم «ذات عمر» ودافعت عنهم عندما عز الصديق والقريب، أو حين كانوا يبحثون عن جدران يستندون إليها، إنها قصة المساكين والمنسيين وقليلي الحظ، أما من قدموا لتك المحطات على عجل فها هم الآن أصبحوا أغنياء الزمن وسادة المال ونسوها.
صحيفة المرصد