هل وصول الرئيس للحكم بانقلاب يبيح الخروج عليه ؟!!

في بياننا وحثّنا على وجوب العمل بالأساليب والطرق الشرعية في مناصحة ولاة الأمر ببلادنا .. وبيان تحريم أساليب الاعتصامات والعصيان والمظاهرات والثورات ببيان النصوص الشرعية والمقاصد المرعية التي راعتها الشريعة الخاتمة وضبطت بها هذا الباب الخطير، يقابل ذلك البيان بعض الناس بقولهم : إن الرئيس البشير قد جاء بانقلاب ووصل إلى الحكم واستلمه بذلك الطريق .. محاولين بذلك إيجاد مخرج لدعوات الخروج ..
وللجواب عن هذه الشبهة أنقل ما كتبته في ردي على مساعد السديرة الذي نشر هذه الشبهة سابقاً ونشرت ردي عليه فيها وفي غيرها بثماني مقالات طبعت بعد ذلك في كتاب ..

وقد قلتُ :
وقد تضمّن كلامه في هذه الجزئية استدلاله بأن الخروج على الحاكم يبرره خروج بعضهم على بعض ، وتعجّب كيف يكون للرئيس البشير أنه خرج على من قبله ولا يجوز ذلك عليه !!!
وإن عجبت من منطق السديرة في الاستدلال بفعل بعض الحكام ، فلك أن تعجب من عدم إدراكه لما ورد في هذه المسألة عند أهل السنة والجماعة.
إن محاولة السديرة إيجاد مخرج للتحريض على الخروج على الحاكم بتبريره (المتهافت) بأن الرئيس البشير جاء إلى الحكم عن طريق (انقلاب) على الحاكم الذي سبقه ، وأن (الحاكم المتغلب) يجوز الخروج عليه انطلاقاً من مبدأ المعاملة بالمثل ، أو استدلالاً بفعله الذي فعله !! وهذا منهج عجيب وقياس فاسد ينبئ عن فقه ضعيف وتيه وضياع في منهجية الاستدلال ، ولن أكون أنا من يتولى الرد على السديرة في هذا الخطأ الكبير الذي نشره في الآفاق في حواره بهذه الصحيفة ، وإنما أضع المجال لعلماء المسلمين الربانيين لبيان الحق في هذه الجزئية ؛ فأدع الحديث لأهل العلم حيث وردنا عنهم ما يلي :
روى البيهقي في كتاب (مناقب الشافعي 1/448) عن حرملة قال: ( سمعت الشافعي يقول : كل من غلب على الخلافة بالسيف حتى يسمى خليفة ، ويجمع الناس عليه ، فهو خليفة)أ.هـ.

وقال الإمام أحمد بن حنبل كما في كتاب (الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص23) : ( … ومن غلب عليهم يعني : الولاة ، بالسيف حتى صار خليفة ، وسُمي أمير المؤمنين، فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً ، براً كان أو فاجراً ) أ.هـ
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي في (فتح الباري شرح صحيح البخاري 13/7) ناقلاً عن ابن بطال (المالكي) !!! قوله : (وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه ، وأن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء، وتسكين الدهماء ) أ.هـ.
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن كما في مجموعة الرسائل والمسائل (3/168) : (وأهل العلم … متفقون على طاعة من تغلب عليهم في المعروف ، يرون نفوذ أحكامه ، وصحة إمامته ، لا يختلف في ذلك اثنان ، ويرون المنع من الخروج عليهم بالسيف ، وتفريق الأمة ، وإن كان الأئمة فسقة ، ما لم يروا كفراً بواحاً ، ونصوصهم في ذلك موجودة عن الأئمة الأربعة وغيرهم وأمثالهم ونظرائهم) أ.هـ
وهذا هو الذي نقل عن بعض الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كما في قصة عبد الله بن عمر ومبايعته لعبد الملك بن مروان المخرّجة في صحيح البخاري (13/193).

ولم يكن مقصود أهل العلم بذلك التشجيع على الانقلابات كما يفهمه المتعالمون أو أنصاف المتعلمين ممن لم يعرفوا ويدركوا المقاصد الشرعية ، وإنما مقصود أهل العلم : الحفاظ على الأمن والأمان ودماء المسلمين والبعد عن الفتن والهرج والمرج .
قال أبو حامد الغزالي في الإحياء (2/233) : (لو تعذر وجود الورع والعلم فيمن يتصدى للإمامة بأن يغلب عليها جاهل بالأحكام أو فاسق وكان في صرفه عنها إثارة فتنة لا تُطاق ، حكمنا بانعقاد إمامته . لأنا بين أن نحرك فتنة بالاستبدال ، فما يلقى المسلمون فيه من الضرر يزيد على ما يفوتهم من نقصان هذه الشروط التي أثبتت لمزيد المصلحة ، فلا يهدم أصل المصلحة شغفاً بمزاياها ، كالذي يبني قصراً ويهدم مصراً ، وبين أن نحكم بخلو البلاد عن الإمام وبفساد الأقضية ، وذلك محال…).

وهذه المسألة مبسوطة في كتب أهل العلم وكتب الأحكام السلطانية ، ومنها كتاب معاملة الحكام في ضوء الكتاب والسنة ، وهذه مجرد إشارة ، يتضح بها خطأ السديرة في ما أتى به في هذه القضية التي وضّحها علماء المسلمين.
فالنصوص الشرعية منعت الخروج على الحاكم إلا بتحقق شروط درءاً للفتنة ، وهذه الفتنة قد تكون متحققة أيضاً فيما إذا انقلب حاكم على الحاكم الموجود، و(استتبت) لهذا الحاكم المتغلِّب الأمور وملك زمامها فحينئذ يكون الخروج على هذا المنقلب والمتغلب يحصل معها الفتن وإسالة الدماء فأجمع أهل العلم على ذلك كما ساقه ابن حجر بل هو فتوى ابن عمر وغيره من الصحابة الكرام رضي الله عنهم ولا يعني هذا الإقرار لهذا الفعل ، وإنما حرصاً على مقاصد الشرع بالمحافظة على الأنفس وليس ذلك تأييداً لهذه الطرق ولا مجاملة للحاكم الجديد ولكنها توجيهات شريعة رب العالمين التي شرعها من هو أعلم بما يصلح لعباده مما فيه ضررهم ، وبذلك سار العلماء الربانيون الذين فهموها الفهم الصحيح وجمعوا بين النصوص بعضها مع بعض مهتدين بمقاصد الشريعة التي هي قمة الإعجاز في الأحكام (وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً) .

وإذا كان السديرة يقول في حواره هذا إنه مالكي !! فهل لم يقف على ما جمعه العلامة الشاطبي في كتابه القيّم (الاعتصام) فقد نقل عن الإمام مالك نقولاً مضيئة في هذا الباب ، وختمها بقوله (2/129) : (قال ابن العربي- المالكي- : وقد قال ابن الخياط : إن بيعة عبد الله (يعني ابن عمر) ليزيد كانت كرهاً ، وأين يزيد من ابن عمر؟ ولكن رأى بدينه وعلمه التسليم لأمر الله والفرار عن التعرض لفتنة فيها من ذهاب الأموال والأنفس ما لا يخفى . فَخَلْعُ يزيد – لو تحقق أن الأمر يعود في نصابه – تعرض للفتنة ، فكيف ولا يُعلم ذلك ؟ وهذا أصل عظيم فتفقهوه والزموه ترشدوا إن شاء الله ).

إن طاعة الحاكم في طاعة الله وعدم الخروج عليه هو أصل من أصول أهل السنة والجماعة وأتباع السلف الصالح الذين يسيرون على ضوء النصوص الشرعية في هذه القضية وفي غيرها من القضايا ، وليس الأمر يخضع للرغبات النفسية أو المصالح الشخصية أو الانتقام أو الكيد أو الانفعالات العاطفية أو المقاصد الحزبية ، أو غير ذلك ، وإن حرص السلف على جمع كلمة المسلمين على حكامهم – وإن جاروا وظلموا واستأثروا – ليس هو رضا منهم بالظلم والفسوق والأثرة ، ولا إقراراً لهم بذلك ؛ بل امتثالاً لأمر الله وأمر رسوله بلزوم الطاعة والصبر سواء في المنشط أو المَكْره ، ونبذ الفُرقة والخروج ، وهذا أصل عظيم من أصول السنة ، ومن مسلّمات الدِّين ، ويدرأ بذلك مفاسد كبرى معلومة من الدين بالضرورة ، وما حدث في تاريخ هذه الأمة – في القديم والحديث – من المفاسد المترتبة على إهمال هذا الأمر لا يخفى على الكثيرين .

وإن الأئمة وأهل العلم قد بينوا بوضوح وجلاء على مر العصور الموقف الشرعي في هذه القضية بما يحفظ للناس دماءهم وأموالهم وأعراضهم ، فكم من مصالح توقعها كثير من الناس غدت مفاسد ومحناً وبلايا تقضي على الأخضر واليابس ، وليس بعد الإسلام نعمة أعظم من نعمة الأمن إذ به تحفظ الأنفس والأموال والأعراض والمقدسات ، وفي مواقف الأئمة عبر، وموقف الإمام أحمد بن حنبل مع المأمون مشهور غير مجهول ، إذ كان يوصي بالصبر حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر ، وكان يردد : الله الله في الدماء، ذكر الإمام أبو بكر الخلال في كتابه السنة عن أبي الحارث أنه حدثهم وقال : سألت أبا عبد الله في أمر كان حدث ببغداد وهمّ قوم بالخروج فقلت : يا أبا عبد الله ما تقول في الخروج مع هؤلاء القوم ؟ فأنكر ذلك عليهم وجعل يقول سبحان الله الدماء ، الدماء ، لا أرى ذلك ولا آمر به ، الصبر على ما نحن فيه خير من الفتنة يسفك فيها الدماء ويستباح فيها الأموال وينتهك فيها المحارم ) وذكر أن ذلك خلاف الآثار التي جاء فيها الأمر والحث على الصبر على جور وظلم واستئثار الحكام.

وفي المقابل فإن أهل السنة لا يزالون ينصحون الحكام بالاستقامة والعدل والقيام بحقوق الرعية وما يجب عليهم ، ويذكرونهم بالبعد عن الظلم والفساد بشتى أشكالهما وصورهما وأداء الأمانة كما يجب ، ويحذرونهم بمثل هذه النصوص :
قال النَّبِي صلى الله عليه وسلم : ” مَا مِنْ عَبْد يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعية ، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاش لِرَعيتِه ؛ إِلَّا حرمَ اللهُ عَلَيهِ الجَنَّة” رواه مسلم.

د. عارف الركابي
صحيفة الإنتباهة

Exit mobile version