لعل ما واجهه المواطنون والحكومة على السواء من أزمات إقتصادية في العام 2018م لم يحدث من قبل، فوصل حد السوء مبلغاً لم يكن في الحسبان مع عجز حكومي بائن في وضع المعالجات السريعة اللازمة، والنتيجة.. تفاقم الوضع الاقتصادي تردياً فوق ما هو متردّ بالأصل.
تحاول الأسطر التالية تناول الأزمات وحجمها ومدى تأثيرها على الطرفين، وهو تأثير يظهر جلياً في عجز المواطن عن تلبية احتياجاته المعيشية، كما يظهر في الحكومة من خلال تخبطها في القرارات والسياسات وصل التأثير عليها لحد خرجت الجماهير للشارع العام في تظاهرات احتجاجية.
1
الوقود.. استحالة رفع الدعم
يشير الأستاذ المشارك بجامعة المغتربين، والمحلل الاقتصادي دكتور محمد الناير، لـ(الصيحة) أن من رابع المستحيلات أن تتجه الدولة إلى رفع الدعم عن أي سلعة إستراتيجية سواء المحروقات أو القمح، لجهة أن الدعم ليس سبباً في الأزمة، وإنما تراجع العملة الوطنية مقابل العملات الحرة، فلا يمكن أن يتحمل المواطن نتيجة ذلك، مؤكدا أن رفع الدعم ليس بالحل مستنداً على محاولات الدولة إلى رفعه لأكثر من 5 مرات منذ انفصال الجنوب، إلا أن الاقتصاد لم يستجب لذلك، ولم يحدث استقرار في سعر الصرف.
وقال الناير إن التحدي الأكبر الذي تواجهه الدولة خفض معدلات التضخم واستقرار سعر الصرف، مشدداً على أهمية العمل بجميع السياسات الممكنة لتجاوز هذه التحديات بدلاً من الحديث عن رفع الدعم، لافتاً إلى أن رئيس مجلس الوزراء، وزير المالية معتز موسى، أكد ذلك أمام البرلمان عدم وجود أي اتجاه لرفع الدعم عن المحروقات، مشيراً إلى تحدّ آخر يكمن في معالجة قضية الدواء من حيث الوفرة والسعر، وأضاف أن التعديلات التي أجريت مؤخراً في مرتبات العاملين بواقع 500 جنيه لأدنى وظيفة و2500 لأعلى وظيفة ليست كافية في ظل ارتفاع المستوى العام للأسعار.
بالنسبة للجازولين.. يحتاج السودان إلى ثلاث بواخر شهرياً بتكلفة تزيد عن (100) مليون دولار، بينما يغطي إنتاج البلاد من البنزين حوالي (90%) من الاستهلاك المحلي، لكن الإنتاج المحلي لا يستخدم كله، حيث يتم تصدير بعضه لدولة إثيوبيا مقابل الكهرباء.
2
الخبز.. شح رغم زيادة الدعم
منطقيًا، لا تبدو الأزمة مستغربة في ظل انخفاض إنتاجية البلاد من القمح، وهي لا تتجاوز “17%” من جملة الاستهلاك السنوي الذي يقدر بمليوني طن سنوياً، مع عوامل أخرى فاقمت من حجم الأزمة.
وعانت صناعة الخبز منذ مطلع العام الحالي من صعوبات بعد إقرار موازنة رفعت الدعم عن الخبز، فارتفع جوال الدقيق من 270 جنيهاً لأكثر من 600 جنيه، وتبعاً لذلك تضاعف سعر قطعة الخبز بنسبة 100%، ولاحقاً أدى ىرتفاع معدلات التضخم لمستويات فلكية لانفلات الأسعار بشكل عام، فارتفعت مدخلات إنتاج الخبز من الخميرة والمحسنات لما يقارب 200% من سعرها السابق، مما أرغم الحكومة على زيادة دعم الخبز من 100 إلى 250 جنيه، ثم أخيراً إلى 350 جنيهاً للجوال بالرغم من تشكيك البعض في صحة مبلغ الدعم الأخير.
3
الدقيق.. محاولات سد الفجوة
الأمين العام لاتحاد المخابز جبارة الباشا هاشم، أكد لـ(الصيحة) تعاون الجهات المختصة في سد الفجوة التي حدثت في الدقيق والبالغة 7 آلاف جوال لتكتمل حصة ولاية الخرطوم من الدقيق بواقع 50 ألف جوال، جازماً باستقرار الإمداد من السلعة للمواطنين وضمان وفرة الخبز بالمخابز، مشيرًا إلى انسياب الخبز بصورة جيدة في جميع أنحاء الولاية، وقطع بعدم وجود أي تحديات أخرى تواجه الخبز خلال الأيام القادمة، مشيرًا إلى شروع وزارة المالية في طرح عطاءات لاستيراد 200 ألف طن من الدقيق و200 ألف طن من القمح لمخزون إستراتيجي لسد أي فجوة محتملة في الدقيق.
وسبق أن أعلن اتحاد المخابز عن زيادة حصة الدقيق للمخابز الأسبوع الماضي بصورة دائمة لولاية الخرطوم لمقابلة الفجوة المحدودة، وقال الأمين العام للاتحاد جبارة الباشا، إن المتوفر حالياً (43) ألف جوال، وأضاف أن انسياب هذه الحصة الخاصة بولاية الخرطوم من الدقيق حالياً تسير بصورة مرضية للمخابز بالولاية، وذكر أن عدد المخابز بولاية الخرطوم “الآلية والبلدية” يبلغ ثلاثة آلاف و(400) مخبز، وأكد أن مطاحن سيقا وويتا وسين وروتانا والحمامة بولاية الخرطوم تعمل بالطاقة القصوى.
ويعزو مصدر في قطاع صناعة الخبز سبب انفراج الأزمة في الخبز خلال الأيام الماضية إلى زيادة في حصص الدقيق من المطاحن إلى المخابز، وحذر في حديثه لـ(الصيحة) من ما يثار عن عزم الدولة طرح عطاءات لاستيراد الدقيق من الخارج، وقال إن ذلك مخالف لقرار مجلس الوزراء القاضي بمنعه، وتساءل عن سبب استيراد الدقيق في ظل وجود قمح كافٍ و42 مطحناً بالبلاد، ورهن توفر الخبز خلال الأيام القادمة باستقرار الحصة كاملة للمخابز، وأشار إلى أن ولاية الخرطوم تستهلك 50 ألف جوال من الدقيق يومياً، مشيرًا إلى أن التحدي يكمن في مقدرة المطاحن على الإيفاء بالحصص كاملة.
وشهد الموسم الشتوي الحالي زراعة حوالي 633 ألف فدان قمحاً من المساحة المخطط لها، ويغطي إنتاج هذا الموسم 45% من الاستهلاك المحلي وفق ما أعلنت وزارة الزراعة والغابات التي استهدفت زراعة حوالي 700 ألف فدان من القمح في الموسم الشتوي لإنتاج 900 ألف طن من القمح، وقالت إن زراعة هذه المساحات توفر للدولة حوالي 300 مليون دولار تصرفها الدولة في الاستيراد.
ويرهن الخبير الاقتصادي دكتور هيثم محمد فتحي نجاح الحكومة في الخروج من الأزمة الاقتصادية الحالية بتوفير جميع مستلزمات الإنتاج وتوزيع المستلزمات الزراعية ومنح المقررات للمزارعين الذين يزرعون الأرض بالفعل وتوعية المزارعين من خلال اتباع الإرشادات الضرورية التي تساهم في زيادة معدلات الإنتاج لضمان الفائدة المزدوجة والتي تحقق للمزارع زيادة في الموارد المالية للدولة وزيادة في حجم المحصول لتخفيف حجم الاستيراد للمحصول من الخارج، إضافة إلى رفع الحكومة السعر الرسمي الذي يحصل عليه المزارع نظير تسليم محصول القمح بالصورة التي تعوضه عما أنفقه طوال العام على المحصول من بذور وتقاوي ومصاريف ري ورش مبيدات، وتوقع زيادة إنتاجية القمح إلى 20% باستخدام التقنيات والأساليب الحديثة، فضلاً عن إستخدام الطرق الحديثة في التخزين داخل الصوامع لكونه محصولاً إستراتيجياً مهماً وزيادة إنتاجه سواء عن طريق زيادة المساحات المزروعة واستنباط أصناف جديدة عالية الإنتاجية لتقليل الفجوة الاستيرادية الكبيرة الموجودة.
4
الدولار الجمركي.. إجماع على الخلل
لعل ما قيل عن سلبيات تطبيق الدولار الجمركي بعد رفعه يكفي، وقال عنه خبراء الاقتصاد ما لا يحصى ولا يعد من انتقادات، مما جعل الخطوة لا تجد التأييد من كل المختصين وهناك شبه إجماع على ضررها، وأبرز السلبيات تمثلت في ارتفاع أسعار بعض السلع بنسبة 300 في المائة، وزيادة التضخم إلى مستويات قياسية لم يبلغها من قبل، ورغم مرور عام على قرار زيادة قيمة الدولار الجمركي، إلا أن تأثيراته على أسعار السلع لا تزال مستمرة حتى اليوم وعاشت الأسواق السودانية انفلاتاً كبيراً أدى إلى عجز المواطنين عن توفير احتياجاتهم الأساسية، مع ارتفاع التضخم إلى 68 في المائة.
عضو اتحاد وكلاء التخليص محمد آدم الطيب، كشف لـ(الصيحة) عن وجود اتجاه لتقليل فئات الرسوم للحد الأدنى بجانب إعفاء الواردات لمدخلات الصناعة لمساعدتها في النهوض والمساهمة في الناتج الإجمالي، داعياً إلى تشجيع الإنتاج ومعالجة الترهل الوظيفي في الدولة، وقال إنه لأول مرة تحدث زيادة في الدولار الجمركي بنسبة 200% في تاريخ السودان، خلافاً لما كان في السابق، والتي لا تتجاوز 10%، وأضاف أن زيادة الرسوم الجمركية زيادة في التكلفة والأعباء والمعيشة، مشيراً إلى أنه بالرغم من إعفاء مدخلات الإنتاج الصناعية، إلا أن عليها ضرائب غير مباشرة من قيمة مضافة وأرباح أعمال والتي زادت بنسبة 200%، مؤكداً أن التضخم الذي حدث في البلاد سببه الرئيسي رفع الدولار الجمركي إلى 18%، مما أدى إلى زيادة تكلفة الصناعة وعدم مقدرتها على منافسة المستورد، الأمر الذي قاد إلى توقف معظم المصانع عن الإنتاج وزيادة الاستيراد والطلب على الدولار، وعزا ارتفاع حصيلة الجمارك للاستيراد بدون تحويل قيمة والتي تتم عبر التسويات، وقال إن الحل يكمن في تقليل سعر الدولار والانضباط في الاستيراد.
5
السيولة.. أزمة تنتظر تحقق الوعود
ما تزال مشكلة شح السيولة ماثلة، وتسببت الأزمة في اهتزاز ثقة العملاء في القطاع المصرفي وزادت معدلات السحب مع قلة الإيداع مما فاقم من حجم الأزمة..
المعالجات المنتظرة بحسب ما تقول الحكومة، مساع لحل أزمة السيولة بالقطاع المصرفي جزئياً في يناير المقبل على أن تحل جذرياً في أبريل من العام المقبل، فيما تباينت آراء المحللين والخبراء في تدابير الحكومة التي تمكنها من حل هذه الإشكالات خاصة مع استمرار أزمات أخرى في الوقود ودقيق الخبز.
أين الحل؟
الخبير المصرفي د. خالد الفويل، يقول إن حل مشكلة السيولة يستلزم أولاً عودة الإيداع من قبل المواطنين في البنوك، بيد أنه أكد صعوبة الأمر خاصة في ظل الظروف الحالية، موضحاً أن استعادة ثقة العملاء في القطاع المصرفي عملية ليست سهلة بعد اهتزاز الثقة خلال العام الحالي، وتوقع أن تاخذ العملية وقتاً حتى تعود المصارف لطبيعتها، منوهاً لاتخاذ البنك المركزي بعض القرارات التي لم تجد ترحيباً من المواطنين مثل تقليل سقف السحب عبر الصرافات الآلية بألا يتجاوز “20” ألف جنيه في الشهر، مع استمرار البنوك في صرف مبالغ زهيدة للمودعين وبعد طول انتظار، ورهن حل مشكلة السيولة باستعادة ثقة المودعين في القطاع المصرفي مع تدابير أخرى تشمل زيادة الإنتاج للحصول على حصائل صادر أكبر وتشجيع الإنتاج المحلي عبر وضع ميزات تنافسية تطمئن المنتجين بتحقيق فوائض من إنتاجهم سواء ببيعه في السوق المحلي أو بالتصدير للخارج.
6
المعيشة.. (تكلفة) تؤرق المواطن
يعاني المواطنون بمختلف فئاتهم في سبيل توفير لقمة العيش، لأن رواتبهم ضعيفة لا تغطي حاجاتهم، ولذلك يلجأون إلى السلفيات التي تُحسم من رواتبهم وتتابع: “إذا رفعت الحكومة المرتبات وتضاعفت الأسعار تبقى الزيادة بلا فائدة، لذا أدعو الحكومة إلى توفير المتطلبات الأساسية لنا، من صحة وتعليم وأكل وشرب بأسعار مناسبة.
وهنا تبدو الحكومة مدعوة للسعي بجدية لتحسين معاش المواطنين، ودعم الأسر الفقيرة، لمواجهة الارتفاع المتواصل في أسعار السلع يظل المطلب الذي على الدولة الإيفاء به في الأوضاع الاقتصادية الحالية للبلاد، والتي استدعت تعديل أجور العاملين بالدولة لتواكب الظروف الاقتصادية رغم أن التعديل لا يعد كافياً.
يقول التاجر عيسى النور، إنه لا مخرج من الأزمات القائمة إلا بمراجعة سياسة التحرير الاقتصادي التي أدخلت السودان في أزمة حقيقية.
وتشهد الأسواق ارتفاعاً ملحوظاً في أسعار السلع الاستهلاكية بنسبة 300%، مقارنة بأسعار مطلع العام الحالي، الأمر الذي عزاه التجار إلى عدم استقرار سعر الجنيه وارتفاع سعر الدولار، ويؤكدون لـ(الصيحة) أن الزيادة فاقت مقدرة المواطن البسيط على الشراء مما ساهم بصورة كبيرة في ركود في حركة البيع وبات المواطن يشتري حاجاته الضرورية فقط.
7
روشتة تحليلية… اختلالات ومعالجات
تحليلات الخبراء ومختصي الاقتصاد تشهد إجماعاً في الرأي أن البلاد تعاني بالفعل من اختلالات اقتصادية تستوجب المعالجة الجذرية، خاصة معاناة المواطنين من غلاء الأسعار وصعوبة الحصول على الخبز وشح السيولة وأزمات الوقود، وما رشح من أنباء عن رفع الدعم الحكومي، وكل هذه الأسباب ساهمت مجتمعة في تعبير المواطنين عن سخطهم. ولكن ما هي المعالجات.. تقول التحليلات إنه يجب التركيز على زيادة الإنتاج خاصة في القطاع الزراعي وتصنيع السلع الاستهلاكية بشكل كافٍ لحاجة السوق المحلي وضرورة ضمان وصولها للستهلك بالسعر المناسب عبر تشديد الراقبة ومنع الوسطاء ومحاربة الاحتكار.
لا يمكن إنكار أن البلاد تعاني أزمة في اقتصادها ومعاش المواطن بات بالغ الصعوبة، والعملة الوطنية في تراجع وكذلك الإنتاج المحلي، وكل هذه المؤشرات وغيرها تؤكد قعود الحكومة في إدارة الشأن الاقتصادي وعدم استغلال الموارد المتاحة.
المؤشرات الآنية تبين وجود خلل في الأوضاع الاقتصادية، ونتيجة لذلك وصلت الأزمة الاقتصادية حداً فوق طاقة احتمال المواطنين، وبات توفير أبسط ضروريات معاش الناس في صعوبة، مع محاولات حكومية لتخفيف حدة الأزمة دون نجاح يذكر، وتتصاعد أسعار السلع الاستهلاكية باستمرارها تزامنًا مع زيادة التضخم وتناقص قيمة العملة الوطنية، وبالتأكيد هذه المعطيات ليست غائبة عن الحكومة، لكن الغائب هو “الحل الجذري الناجز”.
الخرطوم: جمعة عبد الله – مروة كمال
صحيفة الصيحة.