عودة “صلاح قوش” واعتذار هؤلاء عن المناصب التنفيذية!!

ساعات ويرحل عام 2018م ويقبل العام الجديد وبلادنا تعيش وقع أزمة اقتصادية منذ عام مضى شأنها وكثير من البلدان التي تتعرض في مسيرتها لنكبات عسيرة، والأزمات الاقتصادية تضرب وتحل بالدول فقيرها وغنيها، بيد أن معادن الدول تتبدى عند ساعات المحن.. والعلاقات الخارجية وأهمية الدولة لمحيطها الإقليمي والعالمي هي التي تحدد إقبال الأصدقاء لإقالة عثرتها.. وقفت أوروبا مع دولة اليونان قبل ثلاث سنوات حتى استرد الاقتصاد اليوناني عافيته، ووقفت الدول العربية مع الأردن حينما تعرضت لنكبة اقتصادية هددت استقرارها.. ودفعت الولايات المتحدة الأمريكية (100) مليار دولار إلى إيطاليا، وحكومة رئيس الوزراء “برغسكوني” خوفاً من الانهيار الاقتصادي للطليان، ومنذ أن حل العام الماضي.. تفاقمت الأوضاع الاقتصادية في البلاد.. وتدهور سعر صرف الجنيه السوداني مقابل العملات الأجنبية الأخرى.. وانخفضت عائدات النفط لنضوب معظم الآبار في الحقول الكائنة على الحدود بسبب الإهمال والاضطرابات الأمنية جراء الصراع بين السودان وجنوب السودان.. وتوحش السوق بارتفاع أسعار السلع الضرورية.. وفي وقت انسدت فيه شرايين العون الخارجي.. بعد دخول البلاد في نفق الخلافات العربية – العربية.. عطفاً على التقديرات الاقتصادية الخاطئة لحجم الأزمة التي أخذت تحكم قبضتها على البلاد خاصة في النصف الثاني من العام الراحل.. وجاءت بعض القرارات كارثية على البلاد.

{ القرارات الاقتصادية الكارثية

تعتبر القرارات الاقتصادية الكارثية التي اتخذتها حكومة الوفاق في النسخة الأولى وبصورة أكثر دقة اللجنة التي أسند إليها تحديد سعر الصرف بمثابة القشة التي قصمت ظهر استقرار البلاد الاقتصادي، وقرارات لجنة تحديد سعر الصرف اتخذت في يوليو الماضي قرارات إدارية وليست اقتصادية بتجفيف السيولة من سوق المال.. واتخاذ قرارات غير معلنة بإيقاف السحب من أرصدة المواطنين وتجفيف المال من نوافذ الصرافات.. بزعم خفض سعر الدولار مقابل الجنيه بعد قرار رفع الدولار الجمركي بصورة مفاجئة من (6) جنيهات إلى (18) جنيهاً، إلى مضاعفة سعره ثلاث مرات.. ووجهت سلطات بنك السودان المصارف بإيقاف السحب إلا في حدود أقل من خمسة آلاف جنيه.. وتبع هذا القرار إحجام المواطنين عن (توريد) حصائل المعاملات اليومية في حساباتهم، ونشطت تجارة (الخزن)، وأقبل أصحاب الأموال على تخزين الأوراق التي بأيديهم في متاجرهم ومساكنهم.. وضعفت ثقة الناس في الجهاز المصرفي.. وتطاولت الصفوف أمام الصرافات الخاوية من (البنكوت) حتى ضاق المواطنون ذرعاً بما يحدث.. وأطلت أزمات شح الوقود منذ رمضان الماضي بنقص الجازولين والبنزين بسبب تآكل الاحتياطي من الوقود وتوقف مصفاة الخرطوم عن الإنتاج.. وفي ذات الوقت أطلت قضية نقص الخبز.. وتمددت الصفوف أمام محطات الوقود ونوافذ المخابز.. والصرافات وأدت الأزمات إلى احتجاجات مطلبية في عدد من مدن البلاد.. اتخذت بعضها مسلكاً عنيفاً وتخريباً ونهباً.. وحرقاً، كما حدث في عطبرة وربك والرهد بشمال كردفان.. ودخلت المعارضة في خط التظاهرات وانحرفت بمسارها من تظاهرات احتجاجية ومطلبيه لحث السلطات على توفير الاحتياجات الضرورية، إلى تظاهرات سياسية تطالب بإسقاط النظام وتنحي الرئيس “عمر البشير” ، وبلغت التظاهرات السياسية المناوئة للنظام ذروتها يوم (الثلاثاء) الماضي حينما أعلنت بعض أحزاب المعارضة تقديم مذكرة للقصر تطالب قاطنيه بإخلائه.. وما كانت هناك مذكرة في الأصل.. وانطلقت المظاهرة نحو القصر من غير عنف من المتظاهرين أو اعتداء على الممتلكات العامة.. أو حتى حصب الشرطة بالحجارة.. واستخدمت الشرطة الهراوات والبمبان وفرقت التظاهرة.. لتعود العاصمة للهدوء يومي (الأربعاء والخميس) في وقت أعلنت فيه القوى المعارضة عزمها العصيان المدني والإضراب السياسي.

{ الجنرال هزم الجنرال

منذ تشكيل حكومة الوفاق الأولى بقيادة الفريق أول “بكري حسن صالح” رئيس الوزراء السابق.. صوبت الأقلام نقداً لاختيار اللواء “الركابي” وزيراً للمالية لما عرف عنه من انضباط صارم وضعف في القدرات الاقتصادية.. بحسبانه متخصصاً في المحاسبة المالية.. ولا علاقة له بالتخطيط الاقتصادي.. ولم تشفع لوزير المالية الأسبق “بدر الدين محمود” قدراته وحضوره السياسي.. وعلاقاته الواسعة، وتردد حينها أن رئيس الوزراء الفريق “بكري حسن صالح” رفض بصرامة إعادة تعيين “بدر الدين محمود” وجاء بالجنرال “الركابي” وزيراً للمالية.. ورغم أن الفريق “بكري” حافظ على تماسك حكومة الوفاق الأولى وعلى روح الحوار الوطني.. ونأى عن الاستقطاب السياسي وفتح أبواب التوافق داخل مجلس الوزراء لمرور القوانين المرتبطة بالحريات والتغيير السياسي، مثل قانون الصحافة وقانون الانتخابات، إلا أن السياسات الاقتصادية للجنرال “الركابي” قد هزمت حكومة الفريق “بكري” والتي اكتشف الكثيرون هذه الأيام أنها ظلمت.. من الجميع.. انهالت عليها الأقلام ذماً لأدائها ولاحقاً تبين أن الأزمة أكبر وأعمق.. وجاء تعيين “معتز موسى” الشاب دون الخمسين عاماً وسط أجواء ملبدة بالغيوم وإخفاقات كبيرة للقطاع الاقتصادي، وفي محاولة لإنقاذ الأوضاع الاقتصادية.. والإشارة إيجاباً عن قومية الحكم واتساع مقاعده لغير الإسلاميين تم اختيار وزير للمالية من التكنقراط ذي الميول اليسارية الدكتور “عبد الله حمدوك”.. الخبير الاقتصادي في الأمم المتحدة، إلا أن سوء الإخراج وتعيين الرجل ضمن وزراء المؤتمر الوطني وإعلان إجازته علناً في المكتب القيادي قد وضع الرجل أمام خيارات صعبة إما القبول بالتعيين .. أو الاعتذار لرئيس الجمهورية.. ومن قبل ذلك اعتذر عدد من القيادات عن مناصب الولاة والوزراء في ظاهرة لم تشهدها أروقة الحكم في السنوات الماضية، وقبل تعيينه وزيراً للمالية اعتذر الخبير د.”الفاتح علي صديق” عن قبول المنصب، واعتذر “محمد حاتم سليمان” عن منصب الوالي بغرب كردفان، وكذلك وزير الخارجية الأسبق “علي كرتي” اعتذر عن تولي منصب الوالي في البحر الأحمر.. وقبل كل هؤلاء المنتظمين في صف المؤتمر الوطني اعتذر الفريق “الهادي محمد أحمد” عن تولي منصب والي وسط دارفور.. وكانت الاعتذارات هي السمة الغالبة للذين تم ترشيحهم لتولي المناصب التنفيذية في العام الماضي.. وارتفعت سقوفات الآمال والتطلعات بعد تعيين “معتز موسى” الذي انفتح سياسياً على الشعب من خلال (تغريدات) في مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن الرجل لم يحقق نجاحاً كبيراً على صعيد توفير الخدمات الأساسية وحاصرته الأزمات من كل جهة.. ولم يجد الدعم والسند من الجهاز السياسي الذي يستحقه حتى الآن.

{ عودة طائر النورس

من القرارات الكبيرة التي اتخذها الرئيس بصورة مفاجئة العام الماضي عودة المهندس “صلاح قوش” لمنصب المدير العام لجهاز الأمن والمخابرات خلفاً للفريق “محمد عطا المولى عباس” الذي انتقل للولايات المتحدة سفيراً في وظيفة قائم بالأعمال.. وعودة “صلاح قوش” لها دلالاتها السياسية وأثرها على تماسك الدولة لما عرف عن “صلاح قوش” من نفاذ بصيرة وقدرة فائقة على التحليل والنظر بعيداً بعيون زرقاء اليمامة.. ومثل تعيين “صلاح قوش” اعتذاراً مباشراً من القيادة لواحد من جنودها المخلصين لما حاق به من ظلم وحيف واتهامات كاذبة عبر تقارير نسجها البعض للوقيعة بينه والقيادة.. واستفاد “صلاح قوش” أيما فائدة من فترة الامتحان العصيب.. والجلوس في الرصيف مراقباً.. بعد الخروج من السجن، وأول القرارات التي اتخذها “قوش” بعد عودته إصلاح العلاقة مع دولة الجنوب، وكسر طوق العزلة والجدار السميك في عدم الثقة بين “البشير” و”سلفاكير”.. وجفف “صلاح قوش” الدماء التي كانت تسيل في جنوب السودان ومد يده إلى الحركة الشعبية في المنطقتين سراً وعلناً.. وكسر جمود التفاوض مع متمردي حركة تحرير السودان “مناوي” وحركة العدل والمساواة “جبريل” من خلال اتصالات مباشرة أثمرت العودة إلى الدوحة بعد تمنع ورفض.. وداخلياً نجح “صلاح قوش” في تنسيق الجهود مع الجيش والشرطة والدعم السريع، وبدت المنظومة الأمنية أكثر تجانساً وتوافقاً من ذي قبل.

{ عام الرماد الرياضي

شهد العام المنصرم انحدار البلاد رياضياً إلى أسفل وخرجت الأندية السودانية الأربعة من المنافسات التي ينظمها الاتحاد الأفريقي.. وودع المريخ من تمهيدي البطولة على يد فريق يوغندي.. ولحق به في التمهيدي كذلك الأهلي شندي، ومن ثم هلال الأبيض.. وأخيراً سقوط الهلال أمام الأفريقي التونسي وانتقل إلى البطولة الأضعف (الكونفدرالية) ليلعب في ملحق الترضية، وتشير التوقعات لخروجه من المرحلة القادمة نظراً للتدهور العام في كرة القدم السودانية.. وتذيل المنتخب الوطني لمجموعته في تصفيات البطولة الأفريقية للأمم، وخرج كذلك من ذات بطولة الأمم منتخب الشباب تحت سن (19) سنة.. وغابت الكؤوس التي كان يحصل عليها أبطال ألعاب القوى في المنافسات الفردية ، وبدأ يتبخر حلم الرئيس “عمر البشير” بوصول السودان إلى نهائيات كأس العالم المقرر لها دولة قطر في عام 2020م، بضعف المستوى العام.. وحتى المدينة الرياضية التي كثرت الوعود بشأنها منذ نحو (25) عاماً لا تزال تقف شاهداً على عجز القادرين عن التمام.. وشيدت الدولة بأموال باهظة ملاعب رياضية كلفت أضعاف مطلوبات إكمال المدينة مثل ملعب شيكان بمدينة الأبيض.. عاصمة شمال كردفان وملعب نيالا، ولكن ظلت المدينة الرياضية (لغزاً) لا يُعرف سره، وفي العام الماضي (خلع) رئيس نادي المريخ الشرعي “آدم عبد الله” الشهير بـ(سودكال).. وتم تعيين الرئيس الحالي “محمد الشيخ مدني” الذي (يكنى) بأبو القوانين، فكيف لرجل يتم وصفه بالأب للقانون أن يخلع رئيس نادي من غير قانون ليجلس مكانه؟ تلك هي حال الرياضة في البلاد خلال العام المنصرم!!

{ معركة القطط السمان
من القرارات التي وجدت صدى واسعاً وأثراً في الساحة الداخلية.. وفتحت نوافذ الأمل لغدٍ أفضل، الإجراءات التي اتخذتها الدولة للتطهر من الفساد ورد المظالم واستعادة المنهوب من المال العام دونما وجه حق طوال السنوات الماضية.. وفتحت الدولة ملف الفساد علناً وألقت القبض على عدد كبير من الرأسمالية المرتبطة بحزب المؤتمر الوطني.. والحركة الإسلامية وزجت بأغلبهم في السجون، وتم تأسيس وحدة حكومية لمكافحة الفساد.. وألقت السلطات القبض على واحد من ضباط جهاز الأمن وقدمته إلى المحاكمة، كخطوة جريئة لمحاكمة كل من يثبت فساده مهما علت مكانته، إلا أن جهود مكافحة الفساد قد تصادمت مع (قوة الدولة العميقة) ولم تفلح جهود القضاء على الفساد سوى في استرداد مبالغ مالية كبيرة من المقبوض عليهم من خلال تسويات جرت في جنح الظلام.. ورغم أن المبالغ التي تم استردادها لا يمكن الاستهانة بها إلا أن تباطؤ خطى الإصلاح تبعث برسالة سالبة.. وخاصة التعتيم الإعلامي على مسارات جهود استرداد المال العام.. وفي شهر ديسمبر يمثل حالياً أمام جهات تنفيذية وزير مالية بولاية كبيرة للتحقيق معه بشأن بعض المعاملات المالية.. وحققت حملة القضاء على الفساد جزءاً من أهدافها.. في انتظار العام الجديد لتعيد الدولة نظافة ثيابها من درن الفساد.. واستعادة المنهوب من المال دون وجه حق.

{ الراحلون كثر

غيب الموت خلال العام المنصرم نجوماً قريبة وأخرى بعيدة على ذكر البرنامج الذي يقدمه “نجيب نور الدين” من إذاعة أم درمان.. في شهر ديسمبر الذي يلفظ أنفاسه ، أصبح أشهر مخبر في الصحافة السودانية خبراً برحيل “إدريس حسن” رئيس تحرير صحيفة الرأي العام الأسبق، وهو صحافي كبير نحت على صخر المهنة بأظافره.. وكتب اسمه في التاريخ ، وافته المنية عن عمر يناهز الخمسة والثمانين عاماً.. وقبل ساعات من طي صفحة 2018م، نعت أخبار أسبانيا رحيل الدكتور “يحيى حسين بابكر” القيادي الإسلامي وأحد صناع اتفاقية نيفاشا.. رجل صامت.. ومفكر.. وعميق النظرة.. يفكر كثيراً ويتحدث قليلاً.. باغته الموت بعد صراع طويل مع المرض.. وفي عام 2018م مع ساعة الغروب رحل “إبراهيم حسين” المطرب الذي زرع الألفة والمحنة في دروب الفن، كما رحل الإعلامي والسياسي “مالك الزاكي” ومولانا “حسن أبو سبيب”.. وفقدت بلادنا سياسياً نظيف الثياب واللسان في حادث سقوط الطائرة المروحية المهندس “ميرغني صالح”.. غربت شمس عام 2018م، بكل فواجعه وأحزانه وخيباته وفشله.. ويطل عام 2019م سعيداً على الجميع.

يوسف عبدالمنان
صحيفة المجهر السياسي.

Exit mobile version