بعد أن أحكمت أزمة الوقود قبضتها على العباد والبلاد، وانعكست على كل شيءٍ، وهي أزمة ليست وليدة الأمس، بل كاد (عُمرها) يبلغ العشرة أشهر، وفي حينها قال رئيس الوزراء (السابق)، النائب الأول لرئيس الجمهورية بكري حسن صالح؛ بشفافية يُحسد عليها أنّ أزمة الوقود سببها نقص النقود (شُح النقد الأجنبي الذي تُعاني منه الحكومة).. لكن وزير المالية (الأسبق)، رئيس اللجنة الاقتصادية بالبرلمان علي محمود عبد الرسول، أتى بحُجَّة جديدة حين قال أمام البرلمان إنَّ دخول (50) ألف سَيّارة للبلاد خلال عامٍ؛ تَسَبَّبَ في أزمة الوقود الحالية.. السُّطُور التّالية نتناول من خلالها القضية بكلِّ أبعادها…
(كَان زَمان!!)
عوض الله الهدية (تاجر سيّارات) وأحد الذين تَخصّصُوا في استيراد الحافلات الصّغيرة قبل نحو عقدٍ من الزَّمان، قال لـ(السُّوداني): قد يكون حديث وزير المالية الأسبق علي محمود بأنّ كمية السّيّارات التي دخلت السُّودان تَسَبّبَت في أزمة الوقود الحالية؛ قد يكون صحيحاً لو قَالَهُ قبل عام 2010م لأنّه في ذلك الوقت كَانَت البلاد تستقبل على مدار الساعة كمية مهولة جداً من السّيّارات القادمة من ميناء بورتسودان، لأنّه – وقت ذاك – كَانَ سِعر الدولار أقل من ثلاثة جنيهات، والشروط التي تَتم بها عَمليّة الاستيراد مُيسَّرة جِدّاً، لكن الآن مع السِّعر (الخُرافي) للدولار والضوابط المُشَدَّدة التي أقرّتها الحكومة تَقَلَّصَ عدد السّيّارات المُستوردة رُبّمَا إلى أقل من الرُّبع، ولذا فإنَّ أيِّ حدِيثٍ عن ربط أزمة الوقود الحالية بعدد السّيّارات التي ترد إلى البلاد هو حديثٌ يحتاج إلى إعادة بَحثٍ وتَحقيقٍ.
انسداد المَداخل والمَخارج
ويمضي الهدية بحديثه، مشيراً إلى أنّ (زحمة) السيارات الظاهرة للعيان الآن سببها أنّ الكثيرين من المُوظّفين والمُتقاعدين عن الخدمة بمُختلف مَشاربهم، أخرجوا سيّاراتهم للعمل بها في مجال النقل بعد أن وجدوا أنفسهم أمام ضغطٍ اقتصادي رَهيبٍ، تلك ناحية.. أمّا الأخرى فهي أن ضيق الشوارع بالعاصمة وانسداد المَداخل والمَخارج الذي كَثيراً ما يحدث يُوحي بأنّ عدد السيارات مهولٌ جداً، في حين أنّ ضعف هذه الكمية تُوجد في أصغر مدينة بجمهورية الهند، دُون أن يَشعر بها أحدٌ لأنَّ الأمور هُناك تمضي كما خُطِّط لها تماماً.
(50) ألف سَيّارة
وبالعودة إلى أصل (الخبر) نجد أنّ وزير المالية الأسبق، رئيس اللجنة الاقتصادية بالمجلس الوطني علي محمود لم يجد ما يُبرِّر به أزمة الوقود التي تُعاني منها البلاد إلا (ذريعة) استيراد السيارات، حيث قال في إحدى جلسات البرلمان إنّ (50) ألف سيّارة تمّ استيرادها وأنهت إجراءاتها الجمركية خلال العام الحالي، قاطعاً بأنّ ذلك تَسَبّب في أزمة الوقود التي تشكو منها البلاد، وقال: (البلاد تُعاني من أزمة وقود والدولة تسمح بدخول السيارات بهذا الحجم).
هُنا تكمُن العِلَّة
لكن يبدو أنَّ المُحلِّل الاقتصادي د. محمد الناير، لا يتّفِق مع علي محمود في ما ذهب إليه من شَرحٍ، حيث يُرجع الناير أزمة الوقود التي تُحاصر البلاد من أشهرٍ عديدة إلى سُوء التخطيط، وأضاف قائلاً لـ(السوداني): حتى لو سلمنا جدلاً أنّ دخول (50) ألف سيارة أدى إلى تَكَدُّس السيارات أمام محطات الوقود، فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: مَن سمح لهذه الكمية من السيارات أن تدخل، أليست هي الحكومة؟! وأشار إلى أنه مهما زادت كميات السيارات فإنَّ الوقود في عرض البحر (على قفا من يشيل)، لكن أين النقد الأجنبي الذي نجلب به هذا الوقود؟ هنا تكمُن المشكلة!! وهنالك معضلة أخرى تُعيدنا إلى مُربع الخلل وسُوء التّخطيط وتتمثل في مشاكل النقل الداخلي، فكثيراً ما نسمع من الحكومة ذاتها أنّ ثمة كميات من الوقود قابعة بالميناء ولكن هنالك مشاكل في نقلها إلى الخرطوم وبقية الولايات، سببها تواضع قيمة الترحيل، حيث نجد العمولة التي يجنيها أصحاب المحطات ضعيفة جداً، ومن هُنا أيضاً تتسلَّلُ إشكالية سُوء التوزيع والتي غالباً ما يكون سببها نقص التمويل، وقال: لا ننكر جد واجتهاد وزير المالية في حلحلة هذه المُشكلة المُستفحلة، لكننا في ذات الوقت لا بُدّ أن نعترف أنّ ثمة دولة عميقة تُواجه الرجُل وتضعف أداء المنظومة بشكلٍ كاملٍ، واختتم بتأكيده أنّ الذي يجيد إدارة اقتصاد الوفرة قد لا يستطيع إدارة إجادة إدارة اقتصاد النُّدرة بذات الكفاءة.
بشفـافية
وبالرجوع إلى تاريخ الأزمة التي أطلت برأسها منذ أبريل الماضي وتفاقمت لدرجة دخولها (قُبّة البرلمان)، حيث اعترف رئيس وزراء الحكومة السابقة والنائب الأول لرئيس الجمهورية بكري حسن صالح في بيان أداء الحكومة عن النصف الثاني من العام الماضي والربع الأول من العام الحالي أمام البرلمان، بوجود شُـحٍ في النقد الأجنبي أدّى لتفاقم أزمة الوقود لعدم إكمال المبالغ المَاليّة الكَافية التي حَدّدَتها وزارة النفط لاستيراد الوقود وصيانة المصفاة، وأشار حينها إلى حاجة الوزارة لمبلغ “102” مليون دولار، مُؤكِّداً (ألم حكومته) لما يحدث في الشارع من صُفُوفٍ جَرّاء أزمة الوقود، وقال بالنص: (نحن حَاسِّين بما يَحدث في الشارع ومُتألِّمون له، ونعلم أنّ الظروف صعبة جداً جداً ونحن نعيشها وما ناكرين).
إذاً، فالرجُل بصريح العبارة أقرَّ بالأزمة في حينها وأرجع سببها إلى شُح النقد الأجنبي ولا شيء غيره.
(جبهة الغرب)
مدير عام الجمارك (الأسبق) الفريق صلاح الشيخ قال لـ(السوداني): في تقديري أنَّ عدد السّيّارات التي دخلت بلادنا من (ناحية الغرب) فقط يتجاوز الـ (50) ألفاً، جُلَّها أتى من الجماهيرية الليبية و(تكدَّس) في مُدن الفاشر، نيالا والجنينة.. بسُؤالنا له عن الآلية التي دخلت بها مع صُدُور قرارٍ من مجلس الوزراء بالرقم (203) لسنة 2015 وبمُوجبه تَمّ فرض ضوابط جديدة للحَد من استيراد السّيّارات، قال الفريق الشيخ: صحيح إنّ هذا القرار قد صدر قبل حوالي أربعة أعوام ومازال سارياً، لكن الذي يحدث هو أنّه بعد أن ضَاقَت عواصم ولايات غرب البلاد بهذه السّيّارات، أصدر النائب الأول (السَّابق) لرئيس الجمهورية، قراراً (استثنائياً) بتقنين وضعية هذه السّيّارات، ليس ذلك فحسب بل تكرّرت هذه الاستثناءات، وبالتالي يُمكن القول إنّ عدد السّيّارات التي دخلت السُّودان خلال العامين الأخيرين يفوق العدد الذي ذكره علي محمود بكثير.
وكان القرار (203) الذي صدر عام 2015م قد أمَّن على استمرار حظر السّيّارات الصغيرة المُستعملة، استثناء العربات الجَديدة غير المُستعملة المَوجودة في المناطق الحُرة والموانيء من الحَظر، شَريطة استيفائها للمُواصفات الفنيّة على أن تَتَوَلّى سُلطات الجمارك التّأكُّد من سلامة المُستندات التي تثبت تاريخ إدخال تلك العربات إلى البلاد، اعتماد سنة الصنع بدلاً من موديل السَّنة.
بين محطات الوقود والبنى التّحتيّة
وحَسبما أَكّدَ لنا عاملون بعددٍ من محطات الوقود في العاصمة، أنّ الكميات التي كَانت تأتيهم قد تقلَّصت بشكلٍ كبيرٍ مَا جعل العربات تتراصّ أمام (الطلمبات) بشكلٍ لافتٍ للنظر، وقد انعكس ذلك على حركة المُواصلات، حيث أضحت المَواقف تكتظ بالمُواطنين على مدار اليوم.
من ناحيته، قال علم الدين عادل عمر مدير الإعلام بوزارة البنى التحتية في الخرطوم لـ(السوداني)، إنّ هنالك ضغطاً كبيراً على طُرقات العاصمة المثلثة في الآونة الأخيرة، وقد انعكس ذلك على الازدحام المُروري الذي نُشاهده كل يوم، مُشيراً إلى أنّه لا علم بالسبب الأساسي لذلك، وقال: (ليست لدينا إحصائية بعدد السّيّارات الموجودة بولاية الخرطوم)، وَأَضَافَ أنّ وزارة البنى التّحتية تَبحث عن سُبُلٍ لمُعالجات ازدحام المُرور مع الجهات المُختصة، إضافة لحركة المرور، مُشيراً إلى أنّ وزارتهم تقوم بما يليها من تَوسعة الطرق وصيانتها، مع سعيها لزيادة فتحات الجُسُور لخفض الازدحام المُروري.
الخرطوم: ياسر الكردي – ساجدة دفع الله
صحيفة السوداني.