القرار ونقيضه!
-1-
قبلَ أيَّامٍ قرَّرَت الحكومةُ حصرَ تصدير الذهب على أربع شركات فقط، عندها تساءل الناس، وهم يرفعون حواجب الدهشة:
لماذا أربع؟ وعلى أيِّ أساسٍ تمَّ اختيار الشركات؟ ولماذا الاحتكار لا التحرير؟!
قبل توفير الإجابات عن الأسئلة العالقة، عدَّلت الحكومة قرارها وأعلنت سياسةً جديدة:
ألغَت الاحتكار الرباعي الأضلاع، وفتحَتْ باب تصدير الذهب على مصراعيه لجميع الشركات، دون تمييزٍ أو تحديدٍ بالاسم والصِّفات.
بعد أقل من ٢٤ ساعة من قرار التحرير، عاد بنك السودان ليقول إنه لن يخرج من سوق تصدير الذهب، بل سيقوم بإنشاء شركة للقيام بذلك!
خلال فترة محدودة، تغيَّرَتْ سياساتُ صادر الذهب، من التحرير المُطلَق إلى منع الشركات، ثم منْح الاحتكار لبعضها، وأخيراً العودة للتحرير الشامل، وأخيراً منافسة البنك المركزي للشركات !
-2-
ربما تحرير الذهب هو القرار الصحيح وإن جاء مُتأخِّراً: ترك الشركات تخرج إلى الضوء، لتعمل في تصدير الذهب، دون قيود أمنية أو اقتصادية، مع وضع إجراءاتٍ تُحقِّقُ عائداً نقدياً أجنبياً وافراً لخزانة البنك المركزي، ومقابلاً مُجزياً للمُعدِّنين والمُصدِّرين، يحول بينهم ومغامرات التَّهريب غير مأمونة العواقب.
-3-
حتى لا يتمّ الصعود المُتعجِّل على زانة التفاؤل، فإن السياسة الجديدة ستكون مُواجهةً بتحدِّياتٍ صعابٍ وعقباتٍ كؤود.
في مُقدِّمتها، فارق سعر الصرف بين ما حددته الآلية -طيِّبة الذكر- وما يفرضه واقع سوق العرض والطلب.
أضف إلى ذلك، ما تزال أزمة عدم توفر السيولة الكافية تُعيق غالب سياسات الحكومة، ولن تكون تجارة الذهب استثناء من ذلك الشحِّ المرير.
-4-
المُقلق في الأمر أكثر، ضيقُ المدى الزمنيُّ بين قرار الاحتكار الرباعي وقرار التحرير التَّام، ثم المشاركة في التنافس !
القفز من خيار إلى آخر، والانتقال بين الخيارات المُتناقضة، في فترة زمنية قصيرة، يُعطي الانطباع بعدم وضوح الرؤية، وعدم خضوع القرارات ذات الأهمية الكُبرى للدراسة والتَّخطيط المُسبَق.
بمعنى أن الحكومة ما تزال في مرحلة التجريب العملي اليومي المفتوح، على كُلِّ الخيارات، والقائم على اجتهادات قصيرة المدى، يسهل التنازل عنها أو اكتشاف عدم صوابها في أسرع وقت.
-5-
عدم استقرار السياسات وتقلُّبها السريع والمُفاجئ، يُضاعف فاقد الثقة بين الحكومة والقطاع الخاص.
القطاع الخاص – في أغلبه منذ الحكومة السابقة – بات لا يثق في السياسات الاقتصادية؛ فهو يراها مُتقلِّبةً ومُفاجِئةً وخاضعةً للإجراءات الاستثنائية، دون مقدمات تمهيديَّة؛ لذا هرب كثيرون بأموالهم إلى الخارج القريب والبعيد.
كثرة القرارات، وضِيق حيِّزها الزمني، والتراجع السريع عنها؛ كُلُّ ذلك يُربك حركة الاقتصاد ويُصيب الأسواق بالدوار، ويُنفِّر المُستثمرين، ويُحبط المتفائلين، ويَهُزُّ ثقة المُتعاطفين.
-6-
إذا أردنا إنتاجاً ينهض بالاقتصاد، ويأخذ بأيدينا من مُستنقع الأزمات، فلا بدَّ من استقرار نسبي للسياسات، يمنح الطمأنينة ويصون الثقة.
إذا أردنا جذب وإغراء المُستثمرين، فلا بدَّ من استقرار السياسات.
وإذا أردنا الاستقرار الاقتصادي، فلا بدَّ من الدراسة العميقة والتخطيط السليم قبل إصدار القرارات.
لا يُوجد عاقلٌ يُمكن أن يُفكِّر في زراعة شجرة مُثمرة وسط رمال مُتحرِّكة، ولا إيقاد شمعة مُضيئة في الهواء الطلق!
يُوجد فرقٌ بين السرعة المُعبِّرة عن الهمَّة والجدية، وبين التسرُّع المُفضي إلى كثرة الأخطاء والتعثُّر في تحقيق الأهداف.
-أخيراً-
قُلناها من قبل: نتمنَّى أن يبني السيِّد مُعتز موسى رئيس الوزراء جداراً عازلاً بينه وبين من يُطالبونه في إلحاح بسرعة تحقيق إنجازات عاجلة وفورية في 400 يوم.
التسرُّع في تحقيق ذلك ستترتَّب عليه كثيرٌ من الأخطاء المُكلِّفة، وإن ظلَّ معتز يمضي على الطريق الصحيح.
ضياء الدين بلال
السوداني