خفايا وأسرار اتفاق وزيري دفاع السودان ومصر بالخرطوم

منذ أكثر من ثلاثين عاماً لم توقع الخرطوم والقاهرة على اتفاق يخاطب مشاغل الدولتين الأمنية على الحدود.. وقد فعلها الجنرالان “عوض ابن عوف” وزير الدفاع السوداني، وشقيقه الفريق “محمد زكي” وزير الدفاع المصري، ووقعا على اتفاق أمني بعد مباحثات طويلة بعضها معلن وآخر غير معلن، وشهدت الخرطوم منتصف الأسبوع الماضي اتفاق البلدين على إقامة دوريات مشتركة على الحدود وتشكيل قوات مشتركة (سودانية مصرية) دون تحديد حجمها وبداية عملها، وذلك لمكافحة الإرهاب والجرائم العابرة وضبط الحدود وحسم مظاهر التفلت وفرض الأمن والاستقرار على الشريط الحدودي، وفي تصريحات أطلقها الفريق ركن “كمال عبد المعروف” رئيس أركان الجيش السوداني أن المباحثات التي جرت بين وزيري دفاع البلدين كانت مثمرة وبناءة للغاية، حيث تواثقا على استدامة العلاقات في كافة المستويات للتعاون المشترك وبناء شراكة إستراتيجية في التعاون العسكري..

واتفق الوزيران على إقامة الدورات التدريبية للضباط والصف والجنود وزيادة فرص التدريب في المعاهد العسكرية السودانية والمصرية، وكذلك التعاون الاستخباراتي والأمني في كل الملفات والمجالات، وإقامة مشروعات استخبارية تدريبية مشتركة في البلدين بالتناوب والتنسيق المستمر في كل الملفات التي تهم المنطقة والإقليم..

ويُعد الاتفاق الذي وقعه وزيرا دفاع البلدين أهم اتفاق في تاريخ البلدين بعد اتفاقية الدفاع المشترك التي وقعها وزير دفاع السودان الفريق “عبد الماجد حامد خليل” ووزير دفاع جمهورية مصر الفريق أول “عبد الفتاح أبو غزالة” في عهد الرئيس السوداني الأسبق “جعفر نميري” والرئيس المصري الأسبق “حسني مبارك” ، المعروفة باتفاقية الدفاع المشترك والتي أثارت جدلاً سياسياً بعد ذلك في السودان ، مما أرغم “الصادق المهدي” رئيس الوزراء في الحكومة المدنية التي تمخضت عن انتخابات جرت عام 1986م، على تجميد اتفاقية الدفاع المشترك إذعاناً لشروط متمردي الجيش الشعبي الجنوبي حينذاك..

وجاءت اتفاقية الخامس والعشرين من نوفمبر 2018م، بعد توترات وجذب وشد ومد وقبض في العلاقات السودانية المصرية حتى استوت العلاقة مؤخراً على درب المصالح المشتركة.. وتجاوز الهواجس والظنون.. والمخاوف بإعلان شأن الاتفاقات ذات الطبيعة الأمنية والعسكرية على التفاهمات السياسية الموجودة أصلاً بين القيادتين في البلدين، وكشفت مصادر خاصة تحدثت عن خفايا وأسرار الاتفاقيات الأمنية التي وقعت في الخرطوم، حيث بدأت التفاهمات بزيارة الفريق “صلاح قوش” غداة تعيينه مديراً للمخابرات، وأبلغ المصريين النافذ السوداني “قوش” بمخاوفهم وانشغالاتهم وأولوياتهم المتمثلة في تسلل عناصر من تنظيم القاعدة أو تنظيم الأخوان المسلمين المحظور عبر الحدود المفتوحة بعد أن أيقنت القيادة المصرية بأن السودان لا يدعم الإسلاميين المصريين الذين هم على خلاف مع الإسلاميين السودانيين منذ أيام الرئيس السابق “محمد مرسي”..

وفي ذات الوقت وضعت الحكومة السودانية مخاوفها وهواجسها أمام الطاولة والمتمثلة في نشاط المعارضة في المدن المصرية ودعم المعارضة التي تتواجد في الأراضي المصرية للعمل المسلح في المنطقتين ودارفور عطفاً على وجود مكتب للحركة الشعبية في القاهرة.. ومكاتب لحركتي العدل والمساواة وحركة تحرير السودان بقيادة “مناوي” ، واتخذت مصر خطوات عملية بتجفيف الوجود المعارض هناك.. بل أقدمت على تعاون على صعيد تبادل المطلوبين.. ويعتبر تسليم القيادي في حزب البعث العربي الاشتراكي “محمد الحسن البوشي” ثمرة أولى لهذا التعاون.. وحذرت الحكومة المصرية اللاجئين السودانيين من مغبة ممارسة أنشطة سياسية علنية أو سرية، وأوصدت القاهرة الأبواب في وجه الإمام السيد “الصادق المهدي” الذي اضطر للانتقال إلى لندن حيث ضعفت آليات اتصالاته ببقية قادة المعارضة خاصة من في الداخل.. ولعبت الضغوط الاقتصادية دورها في تسريع التفاهمات السياسية والأمنية..

واستخدمت الحكومة السودانية بذكاء ورقة واردات الفواكه والحمضيات المصرية، حيث أوقفت السلطات السودانية في العام الجاري وارد البرتقال المصري واليوسفي والفراولة بعد أن أثار بعض الإعلاميين المصريين قضية استخدام المزارعين المصريين لمياه الصرف الصحي في ري المزارع مما يجعل هذه المحصولات ملوثة وتشكل خطراً على صحة الإنسان، وخسرت الحكومة المصرية (2) مليار دولار هي عائدات الصادرات المصرية للأسواق السودانية، وقبل وصول وزير الدفاع المصري أصدر الرئيس “عمر البشير” توجيهات بإعادة السماح للأغذية المصرية بدخول الأسواق السودانية، وبذلك وضع قرار حظر دخول تلك السلع في جنده السياسي وليس الصحي.. وتبع التوجيه صدور قرار من وزارة التجارة بإلغاء قرارها السابق لتبدأ مرحلة جديدة.

وفي ذات السياق، تبحث الحكومة السودانية عن دعم عربي أو إقليمي للخروج من محنتها الاقتصادية الحالية، ولا تزال القاهرة تشكل ثقلاً في الإقليم وعاصمة مفتاحية في المنطقة.. ويملك الرئيس “عبد الفتاح السيسي” أوراقاً عديدة بيده من شأنها دفع بلدان خليجية كبيرة (محور الرياض أبو ظبي) لتقديم مساعدات وقروض مالية للسودان تقيل عثرته الحالية وتحول دون عودته لمحور (الدوحة موسكو أنقرة) الذي ظل يقف مع السودان منذ انفصال دولة الجنوب..

ولمصر مشاغل ومخاوف من أي تمدد لتركيا في منطقة البحر الأحمر، التي أصبحت محطة يتسابق عليها الأتراك والروس والفرنسيون والولايات المتحدة الأمريكية، ومما جعل للمنطقة أهمية للعرب، الحرب اليمنية الحالية ومحاصرة النفوذ الإيراني من خلال اريتريا والصومال وجيبوتي، ولا تبدو إسرائيل بعيدة عن ملف العلاقات العسكرية المتينة بين الخرطوم والقاهرة، وتعتبر إسرائيل المنافذ الصحراوية على الحدود مع السودان أهم الدروب التي يستغلها تجار السلاح الذين يهربون الأسلحة إلى سيناء ومن ثم إلى داخل إسرائيل، وقرار الحكومة السودانية بجمع الأسلحة من أيادي المواطنين له أبعاد داخلية باستقرار الأمن والحيلولة دون نشوب الصراعات القبلية، ولكن للقرار أثره الخارجي حيث تستغل شبكات تجارة السلاح وجود السلاح في أيادي المواطنين وإغرائهم ببيعه لعناصر الشبكات العابرة للحدود.. وخلال العام الجاري انحسرت تجارة السلاح العابرة للحدود.. وفي ذات الوقت ساهمت الاحترازات الأمنية ونشر قوات من الدعم السريع وشرطة مكافحة التهريب على نطاق واسع على خفض معدلات تهريب البشر إلى ليبيا التي تضطرب فيها الأوضاع.. وكذلك انحسار تجارة السلاح.. وقرار وزيري الدفاع في البلدين بإعادة استنساخ تجربة تشكيل قوات مشتركة على الحدود، كما هو الحال بين السودان وتشاد، خطوة عملية لمراقبة الحدود السودانية المصرية، وطمأنة القاهرة بأن عناصر الإرهابيين التي تم تضييق الخناق عليها في داخل الأراضي المصرية لن تستطيع التسلل إلى الأراضي السودانية، وفي ذات الوقت يمثل تشكيل قوات مشتركة حائط صد دون تسلل المعدنين السودانيين الذين يبحثون عن الذهب الأصفر في كل مكان مما أوقعهم في قبضة الأمن المصري في السنوات الأخيرة، ولا تزال قضية هؤلاء المعدنين تنتظر الحل السياسي والأمني، ولم يرد ذكر لبعض هؤلاء الموجودين في السجون المصرية.

صحيفة المجهر السياسي.

Exit mobile version