فقد كان الثلج يسقط بغزارة بينما كانت السيارة التي تحمل النعش تشق طريقها ببطء في شوارع العاصمة الكورية الشمالية. وكانت سيارة اللينكولن السوداء تحمل على ظهرها نعش الزعيم الكوري الراحل كيم جونغ أيل المسجى على زهور الاقحوان. كانت حشود كبيرة متشحة بالسواد تنتظر على طريق الجنازة، واضظر جنود الى منع المشيعين من التقدم صوب الموكب بينما كانت الجموع تبكي بكاء شديدا وتلطم على صدورها قائلة “والدنا، أبانا.”
وكان يمشي الى جانب السيارة التي تحمل النعش ابن كيم جونغ أيل وخليفته كيم جونغ أون الذي لم يكن يبلغ من العمر آنذاك الا 27 عاما. وبدا على كيم الإبن التأثر الشديد، وأجهش بالبكاء مرات عدة اثناء التشييع.
وكان يسير خلف كيم مباشرة خاله تشانغ سونغ ثايك، الذي كان يعد ثاني أقوى شخصية سياسية في كوريا الشمالية. وعلى الجانب الآخر من السيارة كان يمشي رئيس أركان الجيش الكوري الشمالي ري يونغ هو ووزير الدفاع كيم يونغ تشون.
كان هؤلاء هم الكهول الذين سيمسكون بدفة الحكم في بيونغيانغ. أو على الأقل كان هذا الاعتقاد السائد آنذاك.
في خمسينيات القرن الماضي، أسس جد كيم جونغ أون، الزعيم الشهير كيم أيل سونغ، كيانا فريدا في العالم الشيوعي، ألا وهو أول نظام وراثي في كوريا الشمالية.
لعقدين من الزمن تقريبا، كان كيم أيل سونغ يعد نجله كيم جونغ أيل لكي يخلفه، فأينما ذهب كان وريثه الى جانبه. وفي عام 1994، عندما توفي كيم أيل سونغ، تولى كيم جونغ أيل مباشرة مقاليد الحكم. ولكن عندما توفي هذا في عام 2011، بشكل مفاجئ، كان ابنه لم يكمل بالكاد تمرينه لكي يصبح زعيم كوريا الشمالية. في ذلك الحين، توقع العديد من الخبراء انهيار نظام الزعيم الأوحد. ولكن توقعاتهم راحت هباء.
ففي غضون أشهر قليلة، طرد رئيس الأركان ري يونغ هو ووزير الدفاع كيم يونغ تشون من منصبيهما، ومازال مصير ري مجهولا إلى يومنا هذا.
وفي كانون الأول / ديسمبر 2013، نفذ كيم جونغ أون أكثر خطواته دراماتيكية، إذ أمر باعتقال خاله تشانغ سونغ ثايك من جلسة لمؤتمر للحزب الحاكم واتهم بالخيانة ثم أعدم. وقيل إن عملية الإعدام تمت باستخدام مدفع مضاد للطائرات.
نفذ كيم جونغ أون بين عامي 2012 و2016 أكبر حملة تطهير شهدتها كوريا الشمالية منذ فترة تولي جده كيم أيل سونغ الحكم. وقال معهد الأمن القومي الإستراتيجي في كوريا الجنوبية إن النظام في بيونغيانغ أعدم 140 ضابطا ومسؤولا حكوميا في تلك الفترة، كما أبعد أو سجن نحو 200 من المسؤولين في تلك الحملة.
نجح كيم جونغ أون في إزاحة كل من كان يقف في طريقه، مستبدلا إياهم بكوادر شابه أكثر ولاء له. وتقود هذه الكوادر الشابه شقيقة كيم، كيم يو جونغ التي عينت عضوة في المكتب السياسي للحزب الحاكم في عام 2017 ولما يتجاوز سنها 30 عاما.
أما الآن، فلا يشك أحد في أن كيم جونغ أون هو الذي يمسك بزمام الأمور في بيونغيانغ.
تناول الشاي على الجسر
كان يوما ربيعيا دافئا في شهر نيسان / أبريل 2018، وكان كيم جونغ أون يجلس وسط جسر خشبي يقع في غابة وسط المنطقة المنزوعة السلاح بين الكوريتين.
مرت سنوات ست منذ ذلك اليوم القارس البرودة في بيونغيانغ
يرتشف كيم الشاي، ويستمع باهتمام الى كلام رئيس كوريا الجنوبية مون جاي إن. تم بثت صور اللقاء بشكل مباشر الى كل أنحاء العالم، ولكن لم يسمع أحد فحوى الحديث الذي دار بين الرجلين.
الاجتماع الأول بين كيمجونغ أون والرئيس الكوري الجنوبي مون جاي إن
الاجتماع الأول بين كيمجونغ أون والرئيس الكوري الجنوبي مون جاي إن
فقد قضى العديد في شتى أرجاء الدنيا نصف ساعة تقريبا في مشاهدة ما دار في ذلك الحديث، محاولين تأويل كل إيماءة.
فقبل أشهر قليلة فقط، كان كيم يطلق الصواريخ فوق اليابان، ويهدد بحرق العاصمة الكورية الجنوبية سول والولايات المتحدة.
أما في ذلك اللقاء، فشوهد وهو يبتسم وينخرط في حوار معمق مع عدوه اللدود.
كيف يمكن للمرء أن يوفق بين تلك الصورة من جهة وصورة الرجل الذي لم يتورع عن قتل خاله؟
أسئلة كثيرة تطرح نفسها. ما الذي يريده كيم؟ هل أن الأمر كله عبارة عن خدعة أو محاولة لكسب التأييد؟ أم هل ينوي كيم جونغ أون اتخاذ سبيل مختلف من ذلك الذي اختطه جده كيم أيل سونغ ووالده كيم جونغ أيل؟
الجنرال الصغير
الزمان: عام 1992. المكان فيللا في العاصمة الكورية الشمالية بيونغيانغ. المناسبة: عيد ميلاد صبي يبلغ من العمر ثماني سنوات. وضمن هدايا عيد الميلاد، تبرز هدية واحدة.
الهدية عبارة عن بدلة حقيقية لجنرال في جيش كوريا الشمالية الشعبي.
كو يونغ سوك
يصل ضباط كبار الى مكان الاحتفال وينحنون أمام الطفل ذي الأعوام الثمانية، الطفل الذي كان اسمه كيم جونغ أون.
روت خالة كيم جونغ أون قصة تحوله – ولم يكن عمره قد تجاوز 8 أعوام – الى “الجنرال كيم” لصحيفة الواشنطن بوست في عام 2016. كانت الخالة كو يونغ سوك وزوجها قد هربا الى الغرب قبل عقدين ويعيشان الآن خارج مدينة نيويورك الأمريكية في شبه عزلة.
وقالت كو في المقابلة الصحفية إن حفلة عيد الميلاد تلك التي احتفل فيها ببلوغ كيم جونغ أون سن الثامنة أقنعتها بأنه سيعد لخلافة والده كيم جونغ أيل.
وقالت كو في المقابلة الصحفية، “كان من المستحيل بالنسبة له أن ينشأ كإنسان سوي عندما كان المحيطون به يعاملونه بهذا الأسلوب.”
بعد مضي بضع سنوات، كلفت كو يونغ سوك بمصاحبة كيم جونغ أون عندما قرر والده إيفاده الى سويسرا للدراسة في مدرسة خاصة.
ووصفت كو كيم المراهق بأنه كان مغرورا سريع الغضب.
“لم يكن من الباحثين عن المشاكل، ولكنه كان سريع الغضب ولم يكن يتمتع بأي قدر من التسامح. وعندما حاولت والدته زجره لأنه كان يقضي وقتا كثيرا في اللعب على حساب الدراسة، لم يكن يجيب، بل كان يحتج بطرق أخرى كأن يعلن اضرابا عن الطعام.”
كيم جونغ أون ا المراهق
لا نعلم عن طفولة كيم جونغ أون إلا هذه النتف الصغيرة، وهي ليست كافية لرسم صورة للسبب الذي أختير فيه لخلافة والده عوضا عن شقيقه الأكبر كيم جونغ تشول أو أخيه كيم جونغ نام.
لعل الشخص الأول الذي كان توقع ارتقاء كيم جونغ أون الى قمة هرم السلطة في كوريا الشمالية هو طاهي “السوشي” الياباني المكنى بـ “كينجي فوجيموتو.”
ففي تسعينات القرن الماضي، أصبح فوجيموتو هذا من أفراد الدائرة المحيطة بكيم. وكان يعد الطعام لكيم جونغ أيل، ويدعي أنه كان يلعب مع كيم جونغ أون عندما كان صغيرا.
عاد فوجيموتو الى اليابان في عام 2001، حيث نشر قصته مع كيم. ووصف في كتابه كيف تعرف على كيم جونغ أون وشقيقه الأكبر كيم جونغ تشول للمرة الأولى.
كتب فوجيموتو مستذكرا، “كان الأميران الصغيران يرتديان اللباس العسكري في المرة الأولى التي التقيت بهما، وصافحا كل الحاضرين، ولكن عندما جاء دوري نظر اليّ الأمير كيم جونغ أون شزرا وكأنه كان يود أن يقول “نحن نكره اليابانيين من أمثالك”. لن اتمكن أن أنسى أبدا تلك النظرة. كان عمره آنذاك سبع سنوات.”
وفي كتاب ثان أصدره عام 2003، كتب فوجيموتو،
“كان ينظر الى كيم جونغ تشول على أنه المفضل لخلافة أبيه، ولكني كنت أشك في ذلك. كان كيم جونغ أيل يقول إن كيم جونغ تشول ليس صالحا، فهو يشبه البنات. كان ابنه المفضل هو الأصغر، الأمير الثاني. كان كيم جونغ أون يشبه أبيه، شكلا وموضوعا. ولكن وجوده لم يعلن.”
كانت تلك نبوءة لافتة للنظر فعلا. ففي ذلك الوقت لم يكن كيم جونغ أون معروفا لدى العامة في كوريا الشمالية ناهيك عن الناس في باقي دول العالم، فقد كانت طفولته محاطة بهالة من الكتمان.
صراعات داخل الأسرة الحاكمة
عندما كان تشوي مين جون يبلغ من العمر 14 عاما فقط، أختير للانضمام الى قيادة الحرس العليا، التي تتربع على قمة القوات المسلحة في كوريا الشمالية. أما الآن، فإن تشوي يعيش في كوريا الجنوبية بإسم مستعار بعد أن انشق وهرب الى الجنوب.
حصلنا أخيرا على لمحة عن هذه الوحدة العسكرية شبه السرية المكلفة بحماية أفراد الأسرة الحاكمة في كوريا الشمالية. فلدى وصول كيم جونغ أون الى قرية بانمونجوم الحدودية لحضور قمة مع الرئيس الكوري الجنوبي مون جاي إن، شوهد عدد من الحرس يرتدون بذلات مدنية ويهرولون الى جانب سيارة المرسيدس التي كان يستقلها. كان هؤلاء من عناصر النخبة في قيادة الحرس العليا، أي انهم كانوا نخبة النخبة.
لم تكن لتشوي مين جون أي فرصة للانضمام الى تلك الحلقة النخبوية العليا، فلم يكن طويل القامة بالقدر المطلوب، والأهم من ذلك لم يكن يتمتع بالخلفية الأسرية المطلوبة.
قال لي تشوي، “لم أولد في الصف الأول من المجتمع، ولذا لم يكن مسموحا لي أن أخدم ضمن تشكيل الحماية الخاصة للزعيم الأعلى. عينت عوضا عن ذلك في وحدته القتالية.”
رغم ادعاءاتها بأنها دولة اشتراكية، تطبق كوريا الشمالية نظاما طبقيا معقدا وصارما يصنف كل الناس منذ ولادتهم. يطلق على النظام اسم “سنونغبون”. يصف موقع NKNews (وهو موقع أمريكي له مكاتب في العاصمة الكورية الجنوبية سول وواشنطن ولندن) هذا النظام بالشكل التالي:
“نظام سونغبون يقسم السكان الى فئات تبعا لسلوك وموقع أجدادهم في فترة الغزو والاحتلال الياباني وفي في فترة الحرب الكورية. ونظام سونغبون هو الذي يقرر ما اذا كان من حق الشخص الإقامة في العاصمة بيونغيانغ ومكان عمله ونوع التعليم الذي يتمكن من الحصول عليه.”
من المهم الذكر أن التقييم الذي يمنحه نظام سونغبون ليس قابلا للتغيير. فاذا كان جدك قد حارب ضد اليابانيين اثناء الاحتلال الياباني لكوريا، تعد “مواليا”، اما اذا عمل مع المستعمرين اليابانيين فينظر اليك على أنك “عدو” وتظل عدوا الى الأبد.
“بالنسبة لأاسرة كيم، يعد الجميع أعداء محتملين، بما في ذلك الجيش ورئاسة الأركان، ووزارة الدفاع وكل الشعب الكوري الشمالي.”
كانت أسرة تشوي أسرة فلاحية، لم تخدم اليابانيين ولكنها لم تقاومهم أيضا. وهذا كان السبب الذي أدى الى تنسيب تشوي الى وحدة قتالية. وفي ذلك الوقت لم يؤد “وضعه” الى إضعاف ولائه للنظام.
يقول تشوي، “في كوريا الشمالية يتم غسل دماغك وأنت ما زلت في سن مبكرة. لقنت بأن أفراد أسرة كيم هم عبارة عن آلهة، وصدقت ذلك.”
“فعندما قال الزعيم كيم أيل سونغ في خطبة ألقاها بمناسبة العام الجديد إن علينا انتاج المزيد من الفحم، قلت: سأذهب الى المناجم. كنت ساذجا ومواليا الى تلك الدرجة.”
ولكن تشوي اكتشف بسرعة أن الغرض من وجود قيادة الحرس العليا لم تكن لحماية أسرة كيم من الأعداء الخارجيين بل من شعبهم.
قال لي تشوي، “بالنسبة لأاسرة كيم، يعد الجميع أعداء محتملين، بما في ذلك الجيش ورئاسة الأركان، ووزارة الدفاع وكل الشعب الكوري الشمالي.”
درب تشوي على تجنب الوثوق بأي شخص، حتى والديه.
وكلما ازدادت شكوك أسرة كيم، ازداد عدد قوة الحماية التي يحيطون أنفسهم بها.
يقول تشوي، “عندما رأت أسرة كيم انهيار الكتلة الشرقية وسقوط الإتحاد السوفييتي اصيبت بصدمة. وقررت زيادة عديد قيادة الحرس العليا. ويبلغ عدد عناصر هذه القيادة الآن 120 الف عنصر تقريبا.”
يخشى نظام كيم، شأنه شأن أي بيت ملكي في القرون الوسطى على سطوته، ويشعر بوجود الأعداء في كل مكان.
وكما كان الحال مع العديد من الأسر الحاكمة عبر العصور، تلجأ أسرة كيم أحيانا لممارسة اسلوب القتل من أجل حماية مركزها.
الأخ كيم جونغ نام
في الثاني عشر من شباط / فبراير 2017، اجتمع عدد من الأصدقاء في مطعم في العاصمة الماليزية كوالا لامبور للاحتفال بعيد الميلاد الـ 25 للإندونيسية ستي آسيا. ويبين شريط التقطه أحد اصدقائها بهاتفه آسيا وهي تبتسم وتغني وتطفئ شموع العيد.
وحسبما جاء في رواية آسيا حول الليلة المذكورة، فإنها قالت لاصدقائها إنها ستزف لهم أنباء مثيرة. فقد حصلت على وظيفة في برنامج تلفزيوني، مما سيتيح لها ترك عملها في حمام عمومي سيء السمعة في كوالا لامبور. رفع أصدقاؤها الأنخاب مهنئين وقائلين، “ستصبحين نجمة.”
في صبيحة اليوم التالي في مطار كوالا لامبور، رصدت ستي آسيا فريستها: رجل بدين أصلع يرتدي قميصا ازرق وسترة رياضية. عندما كان الرجل يوشك على التقدم الى مكتب تسجيل الرحلات، ركضت نحوه ورشت سائلا في وجهه.
“ما الذي تفعلينه؟” سأل الرجل بلغة إنجليزية مهلهلة.
ردت ستي آسيا، “آسفة” ثم ولت الأدبار.
تصر آسيا في روايتها لما حدث – وهي رواية لم تمنع السلطات الماليزية من توجيه تهمة القتل العمد اليها – أن الأمر بأسره كان عبارة عن حيلة ابتدعها البرنامج التلفزيوني الذي تعمل لصالحه.
وفي مقهى لا يبعد الا ببضع أمتار عن مكان الحادث، كان يجلس عدد ممن وصفوا بأنهم عملاء كوريون شماليون. وتظهر الصور التي التقطتها أجهزة التصوير الأمنية الرجال وهم يتوجهون الى بوابات السفر ويلتحقون برحلة متجهة الى دبي – بعد ان تيقنوا من أن مهمتهم قد انجزت على ما يبدو.
أما الرجل البدين، فبدأ يشعر بالمرض، إذ شعر بحكة في وجهه وصعوبة في التنفس. وفي غضون دقائق فقط، فقد الوعي. استدعت سلطات المطار سيارة اسعاف لنقله الى أقرب مستشفى، ولكن في الطريق امتلأت رئتاه بالسوائل واختنق وفارق الحياة.
كان القتيل يحمل جواز سفر دبلوماسيا كوريا شماليا بإسم كيم تشول، ولكن في حقيقة الأمر كان الرجل هو كيم جونغ نام، الأخ غير الشقيق للزعيم كيم جونغ أون.
قتل كيم جونغ نام بسم الأعصاب “في أكس” الذي يؤدي استنشاق كمية منه بحجم حبة الرمل الى الموت.
كانت عملية اغتيال كيم تصرفا سافرا، ورغم نفي كوريا الشمالية تورطها فيها اشارت جميع الأدلة الى أن كيم جونغ أون هو الذي كان مسؤولا عنها. ولكن ما هي الدوافع؟
كان لوالدهما كيم جونغ إيل حياة عاطفية معقدة. فقد اقترن رسميا بسيدتين، وكان له 3 عشيقات على الأقل أنجب منهن 5 أطفال. كان كيم جونغ نام الولد الأول الذي انجبه كيم جونغ أيل مع عشيقته الأولى سونغ هي تيم، أما كيم جونغ أون فكان الإبن الأصغر لعشيقته الثانية كو يونغ هوي وهي ممثلة سابقة ولدت في اليابان. كان كيم جونغ أيل حريصا على إبقاء علاقاته بعشيقاته – وأولادهن – سرا طي الكتمان، فقد كانوا يقيمون في دور معزولة عن بعضهم البعض. فرغم كونهما أخوين، لم يلتق كيم جونغ نام وكيم جونغ أون ببعضهما قط.
باعتباره الإبن الأكبر، كان كيم جونغ نام يعد خليفة والده كيم جونغ أيل، ولكن، وفي عام 2002، ألقي عليه القبض عندما كان يحاول السفر الى اليابان باستخدام جواز سفر مزور. كان كيم جونغ نام ينوي زيارة مدينة ديزني للألعاب في طوكيو.
صور كيم جونغ نام، وهو يقتاد الى طائرة ويطرد من اليابان. كان هذا المشهد – بالنسبة لوالده في بيونغيانغ – إهانة لا يمكن أن تغتفر. فقد أزيح بكيم جونغ نام من تسلسل الولاية ونفي الى الصين، أو على الأقل هكذا تقول الحكاية.
ولكن هذه ليست القصة بكاملها.
يوجي غومي صحفي ياباني تمكن من التعرف على كيم جونغ نام أكثر من أي شخص آخر من خارج كوريا الشمالية. ففي لقاءات متوالية جرت في بكين وماكاو، تمكن غومي من استقصاء شيء عن حياته.
يقول غومي، “استثني كيم جونغ نام من الولاية قبل حادثة مدينة ديزني في طوكيو.”
ويضيف بأن العلاقات بين كيم جونغ نام وأسرة كيم بدأت بالتدهور بعد عودته الى كوريا الشمالية من المدرسة التي كان يداوم فيها في سويسرا في أواخر ثمانينيات القرن الماضي. فقد أثرت تجربة العيش في أوروبا عليه تأثيرا كبيرا.
في تسعينيات القرن العشرين، عانت كوريا الشمالية من قحط شديد، يطلق عليه رسميا اسم “المسيرة الشاقة”. فقد تضافر انهيار الاتحاد السوفيتي (مما أدى الى انتهاء الدعم الاقتصادي) وسلسلة من الفيضانات المدمرة الى شح خطير في الغذاء أدى في سنوات أربع الى موت ما بين مليون وثلاثة ملايين من الكوريين الشماليين نتيجة الجوع والمرض وسوء التغذية.
يقول غومي إن كيم جونغ نام كان يريد من والده تغيير النظام الاقتصادي السائد في كوريا الشمالية، فقد كان يريد تطبيق اصلاحات مماثلة لتلك التي اجريت في الصين فيما يخص الملكية الخاصة والأسواق.
ولكن، وحسبما يقول غومي، “أثار هذا الطرح غضب كيم جونغ إيل، وقال لكيم جونغ نام إن عليه تغيير رأيه أو مغادرة بيونغيانغ.”
يتفق الصحفي برادلي مارتن – مؤلف كتاب “في ظل العناية الأبوية للقائد الأب”، والذي يعد المرجع حول أسرة كيم – مع هذا الرأي
يقول مارتن إن “كيم جونغ نام لم يفقد موقعه لأنه أراد زيارة مدينة ديزني في اليابان، فكل الأسرة تسافر بأسماء مستعارة، ولا أعتقد أن أباه شعر بالحرج نتيجة لذلك. أعتقد أن كيم جونغ نام تفوه بقضايا تتعلق بالسياسة وضرورة تغيير سياسات الدولة لم ترق لوالده.”
بعد ذلك، نفي كيم جونغ نام الى العاصمة الصينية بكين.
برادلي مارتن
كان من المفروض أن يخلف كيم جونغ أيل ابنه الأوسط كيم جونغ تشول، ولكن يبدو الآن أنه لم يكن يفكر في ذلك اصلا. عوضا عن ذلك، اختار كيم جونغ أيل ابنه الأصغر كيم جونغ أون لخلافته.
يقول مارتن، “اختاره أبوه دون إخوانه لأنه كان أخسهم وأبغضهم.”
بعبارة أخرى، كان لكيم جونغ أون الأمل الأفضل في تخطي صراع الولاية الوحشي وإعلاء مصالح الأسرة الحاكمة.
وقد نجح كيم جونغ أون فعلا في برهنة وحشيته. يقول غومي إنه بمجرد وفاة كيم جونغ أيل وتولي كيم جونغ أون زمام السلطة، بدأ أخوه الأكبر بالشعور بالقلق.
ويمضي للقول، “بدأ كيم جونغ نام يشعر بالخوف بعد وفاة كيم جونغ أيل. كانت المرة الأخيرة التي تواصلت معه في كانون الثاني / يناير 2012. قال لي كيم جونغ نام آنذاك إن أخي وأسرة كيم سيؤذونني.”
يقول مارتن من جانبه إن كيم جونغ أون هو الذي أمر بقتل أخيه، ويعلل ذلك بالقول:
“الأمر يتناسق مع اغتيال خاله تشانغ سونغ ثايك. فقد إتهم تشانغ بتدبير انقلاب، ولكن نحن (الاعلام الغربي) تجاهلنا ذلك. بعد ذلك، بدأ كيم جونغ أون بالتآمر على أخيه. لدينا تقارير تقول إن تشانغ ذهب الى الصين وقال للمسؤولين الصينيين، لنتخلص من كيم جونغ أون ونعين بدله كيم جونغ نام، مما جعل كيم جونغ أون يعتقد بأن خاله وأخاه الأكبر يتآمران عليه مع الصينيين. إنها وجهة نظر لا تخلو من المنطق.”
هذه محض نظرية، ولكن الاستنتاج الذي خرج به مارتن لا يمكن دحضه.
إذ يقول، “لم يعد هناك أي تهديد لحكمه، فقد تخلص من كل متحديه الداخليين.”
ما من شك في أن كيم جونغ أون هو الآن حاكم كوريا الشمالية المطلق، ولكن ما هي أهدافه لبلده الصغير المفقر؟
الرحلة
في صيف عام 1998، عاد كيم جونغ أون الى كوريا الشمالية في اجازة من مدرسته في سويسرا، وذهب الى منتجع الأسرة الصيفي الساحلي الكبير قرب وونسان.
سافر بعد ذلك بالقطار الى العاصمة بيونغيانغ، وكان يجلس الى جانبه وينظر الى القرى ومزارع الرز على الطريق الطاهي الياباني كينجي فوجيموتو.
يقول فوجيموتو في كتابه الذي أصدره عام 2003 إن كيم جونغ أون قال له في تلك الرحلة، “يا فوجيموتو، إن بلدنا متخلف في التقنيات الصناعية حتى مقارنة مع غيره من البلدان الآسيوية، فما زلنا نعاني من انقطاع التيار الكهربائي.”
ويضيف فوجيموتو إن كيم قارن بين الأوضاع في كوريا الشمالية وتلك السائدة في الصين.
وينقل عن كيم قوله، “سمعت أن الصين نجحت في مجالات شتى. عدد سكان بلدنا 23 مليونا، بينما يبلغ عدد سكان الصين أكثر من مليار نسمة. كيف يتمكنون من توفير الطاقة الكهربائية لهذا العدد الهائل؟ لعله من العسير انتاج الغذاء الكافي لاطعام مليار نسمة. علينا تطبيق النموذج الصيني في بلادنا.”
إذا كانت القصة التي رواها فوجيموتو صحيحة، يعني ذلك أن كيم جونغ أون كان يتفوه بأفكار تعد كفرا في كوريا الشمالية.
فمنذ عام 1955، يعد مبدأ “الجوشي” هو المبدأ أو الأيدولوجية السائدة في البلاد. معنى “الجوشي” هو “الاعتماد على النفس”، وينظر في كوريا الشمالية الى هذا المبدأ على أنه مساهمة الزعيم كيم أيل سونغ الكبرى في الفكر الماركسي اللينيني. وهناك نصب كبير للجوشي في الضفة الجنوبية لنهر دايدونغ في العاصمة بيونغيانغ. وليس من الحكمة الاستهزاء بهذا النصب.
ولكن مبدأ الجوشي ليس الا محض خرافة، فكوريا الشمالية لا تعتمد على نفسها ولم تكن كذلك أبدا. ففي السنوات الـ 40 الأولى لوجودها كانت تعتمد بشكل كلي تقريبا على المساعدات التي كانت تقدمها لها موسكو. وعندما انهار الاتحاد السوفيتي، انهار معه اقتصاد كوريا الشمالية وعانى سكانها من الجوع.
ولكن، ووسط ذلك القحط، بدأ الكوريون الشماليون بالتوجه الى التجارة. ونشأ اقتصاد جديد في التسعينيات، اقتصاد غير مقيد وغير معترف به على المستوى الرسمي، ولكنه الاقتصاد الذي أبقى الشعب الكوري الشمالي على قدميه.
اتضح لي حجم هذا الاقتصاد “غير الرسمي” عندما قابلت منشقا كوريا شماليا في العاصمة الكورية الجنوبية سول في عام 2012.
كانت الرئيسة الكورية الجنوبية بارك جيون هاي قد أمرت للتو باغلاق منطقة كايسونغ الصناعية المشتركة التي تقع الى الشمال من المنطقة المنزوعة السلاح في كوريا الشمالية.
قال المنشق الشاب، “عندما سمعت بالخبر، اتصلت بوالدي وطلبت منه التوجه الى الصين وشراء كميات من حلويات “تشوكو”.
لم أفهم ما كان المنشق يرمي اليه.
قلت، “آسف، ولكن أين والدك الآن؟”
قال، “في كوريا الشمالية.”
“وكيف تتصل به؟”
اتضح أن للوالد شريحة هاتف صينية، وهو أمر غير قانوني وخطر، ولكنه رائج في كوريا الشمالية. يتوجه الوالد مرة كل شهر الى منطقة قريبة من الحدود الصينية ويتصل بشبكة هواتف صينية مما يمكن ولده من الاتصال به.
وماذا عن حلويات الشوكو؟ كانت الشركات الكورية الجنوبية التي تعمل في منطقة كايسونغ تدفع أجور العمال الكوريين الشماليين لديها – جزئيا – بمنتجات كورية جنوبية وكانت احدى أكثر السلع رواجا حلويات شوكو.
نالت هذه الحلويات شعبية كبيرة في كوريا الشمالية بحيث اصبحت مرادفة لعملة غير رسمية. وبما أن منطقة كايسونغ قد أغلقت، لابد أن يرتفع سعر هذه الحلويات ارتفاعا كبيرا. ولذا طلب المنشق من أبيه التوجه الى الصين وشراء كل ما يتمكن من حمله من هذه الحلويات لأن الأرباح ستكون مجزية.
في كنيسة تقع في احدى ضواحي سول، التقيت بمنشق يختلف تماما عن الأول. كان رجلا قصيرا ذا كتفين عريضين وفم خال من الأسنان ولكنة كورية وجد مترجمي الكوري الجنولي صعوبة في فهمها.
قال، “كنت مهربا.”
ووصف الرجل كيف كانت العصابة التي ينتمي اليها ترشي حرس الحدود في كوريا الشمالية لاقناعهم بالتخلي عن حراسة منطقة معينة من الحدود ليلا. وكانت العصابة تجتاز الحدود آنذاك حاملة معها معادن ثمينة وحديد خردة.
سألته، “ما هي المواد التي كنتم تهربونها من الصين الى كوريا الشمالية؟”
قال، “شتى المواد من الغذاء الى الملابس الى الأقراص المدمجة الى الأشرطة الإباحية. ” وأضاف، “المخدرات والمواد الإباحية كانت أكثر المواد خطورة.”
سألته، “ما هي المواد الأكثر خطورة لتهريبها من كوريا الشمالية؟”
قال، “إذا سرقت معادن من تمثال لكيم قد يؤدي ذلك الى اعدامك رميا بالرصاص.”
كانت السلع المستوردة والمهربة من الصين تباع في اسواق كبيرة نمت في كل المدن والبلدات في كوريا الشمالية. كان هذا الاقتصاد غير الرسمي يعمل بشكل جيد، وأدى الى نمو طبقة متمولة قامت بشراء العقارات في بيونغيانغ العاصمة. كان الاقتصاد الكوري الشمالي ينمو، ولكن لم يصاحب ذلك أي تغيير أيديولوجي في قمة الهرم الحاكم.
ولكن، وفي العشرين من نيسان / أبريل من هذا العام، وفي اجتماع موسع لحزب العمال الكوري، ألقى كيم جونغ أون خطابا تحت عنوان:
“تسريع البناء الاشتراكي كما تتطلبه المرحلة الجديدة للثورة المتجددة”
أعلن كيم في ذلك الخطاب أن كوريا الشمالية ستجمد كل التجارب النووية والصاروخية الجديدة، وأعلن أيضا عن انتهاج “خط استراتيجي جديد” يركز على تنمية اقتصاد كوريا الشمالية. ورأى بعض المراقبين أن ذلك الخطاب يعد إشارة الى أن كيم جونغ أون مستعد للوفاء بالوعد الذي قطعه في القطار، أي اتباع النموذج الصيني.
أحد هؤلاء المراقبين هو جون ديلوري من جامعة يونساي قي العاصمة الجنولبة سول.
يقول، “تركز الإستراتيجية الجديدة على القضايا الاقتصادية بشكل أساس، كيم يقول سأحسن الوضع الاقتصادي، ولن تجبرون على شد أحزمتكم ثانية.”
ويضيف، “حصل تحسن متواضع في السنوات الخمس أو الست الأخيرة، ولكن لم نلحظ أي تقدم واضح، إذ كان كيم يركز على البرنامج النووي. ولكننا الآن نرى تغييرا حقيقيا في التوجه.”
ولكن مراقبين آخرين مثل برادلي مارتن لايشعرون بنفس الثقة.
يقول مارتن، “هل يفكر كيم جونغ أون جديا بأنه سيتمكن من تغيير بلاده؟ لا أعرف، فالأمر لا يتوافق مع ما نعرفه عنه. كانت لديه فرصة كبيرة لفعل ذلك اذا كانت هذه رغبته، ولكنه فضل اقتفاء اثر والده وجده ببناء الصروح الكبيرة.”
ويمضي للقول، “لم أر أي دليل على اصلاح الاقتصاد عدا الاعتراف بوجود اقتصاد مواز. كان سيموت كل الكوريين لو لم يكن ذلك الاقتصاد الموازي موجودا.”
إذا كان كيم جونغ أون ينوي فعلا تطوير اقتصاد بلاده والأخذ بها على طريق التنمية، فهو يحتاج رفع العقوبات المفروضة عليها. كما يحتاج إلى عودة النشاط التجاري واستثمارات هائلة. ولكن الولايات المتحدة وحلفاءها ستطالبه بالتخلي عن “سيفه الثمين” أي أسلحته النووية. فهل في نية كيم فعل ذلك؟
رجل الصواريخ المحب للتدخين
في الصباح الباكر ليوم الرابع من تموز / يوليو 2017، رصد قمر اصطناعي أمريكي كان يحلق فوق كوريا الشمالية نشاطا غير عادي في قاعدة جوية تقع شمالي اقليم بيونغان. فقد رصد القمر دخول عربة اطلاق ضخمة ذات 16 عجلة الى القاعدة وهي تحمل على ظهرها صاروخا كبير الحجم.
وأتاح القمر الاصطناعي الفرصة لضباط الاستخبارات الأمريكيين لساعة كاملة مراقبة رفع الصاروخ الى وضع الاطلاق وتزويده بالوقود. ورأوا بوضوح رجلا يتجول حول الصاروخ وهو يدخن سيجارة.
روى هذه القصة رئيس تحرير مجلة “الدبلوماسي”، أنكيت باندا، الذي يقول إن مصدرا استخباريا سربها له. أما الرجل ذو السيجارة الذي كان يدخن قرب صاروخ مليء بالوقود شديد الاشتعال، فلم يكن من المعقول الا أن يكون كيم جونغ أون نفسه.
بعد انبلاج الفجر بفترة قصيرة، انطلق الصاروخ وحلق لمسافة 3000 كيلومتر في الفضاء الخارجي قبل إن يهوي في بحر اليابان. طار كيم جونغ أون فرحا بهذا الإنجاز، وأظهرت صور نشرت لاحقا الزعيم الكوري الشمالي وهو يبتسم ويعانق كبار ضباط جيشه – وكانت في يده السيجارة التي تعرف عليه بواسطتها ضباط الاستخبارات الأمريكيون.
قالت بيونغيانغ إن الصاروخ صاروخ باليستي جديد عابر للقارات بإمكانه ضرب الولايات المتحدة، وإن اختيار تاريخ الإطلاق في الرابع من تموز / يوليو – يوم الاستقلال الأمريكي – كان بمثابة هدية الى الرئيس دونالد ترامب.
تابعت كوريا الشمالية تطوير برنامجها النووي بإصرار كبير، رغم الثمن الاقتصادي الباهظ ورغم الضغوط الدولية الكبيرة.
وبعد مجيئه للسلطة في عام 2011، أمر كيم جونغ أون بتسريع البرنامجين النووي والصاروخي. ففي الفترة التي حكم فيها والده كيم جونغ أيل البلاد – وهي فترة امتدت 16 عاما – أجرت كوريا الشمالية اختبارين نوويين و16 اختبارا صاروخيا. أما كيم جونغ أون، فقد أجرى في السنوات الست الأولى من حكمه 4 اختبارات نووية و82 اختبارا صاروخيا.
في 20 تشرين الثاني / نوفمبر الماضي، كلل برنامج كوريا الشمالية الصاروخي بإطلاق صاروخ هواسونغ 15 هائل الحجم. وقالت وكالة الأنباء الكورية الشمالية الرسمية إن ذلك الصاروخ يمكنه حمل “رأس حربي ثقيل الوزن” وضرب اهداف في أي مكان في البر الأمريكي.
وجاء في تقرير نشرته الوكالة أن كيم جونغ أون “أعلن بكل فخر أننا حققنا أخيرا الهدف التاريخي المتمثل بانجاز القوة النووية للدولة وانجاز قوة صاروخية فعالة.”
واتفق العديد من الخبراء الدوليين على أن كيم اصبح بامكانه ضرب الولايات المتحدة.
ولم يكد يمر شهر واحد على ذلك الاعلان حتى أصدر كيم رسالته السنوية بمناسبة حلول العام الجديد 2018، والتي أعلن فيها استعداده لارسال وفد رياضي للمشاركة في دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في كوريا الجنوبية.
فهم كثيرون في العالم الخارجي من هذه الرسالة أن كيم قرر التحول من المواجهة الى التواصل.
ولكن باقتراب موعد القمة الموعودة بين كيم وترامب، ما زالت عدة اسئلة مهمة بلا اجابات: لماذا كان كيم مصرا كل هذا الإصرار على تطوير اسلحة بعيدة المدى بامكانها ضرب الولايات المتحدة؟ وما هو الغرض من الترسانة النووية التي طورها؟
صاروخ كوري شمالي عابر للقارات
طريقة الاجابة على هذه الأسئلة ستقرر ما اذا كان المرء يصدق بأن كيم يريد أن “يتعايش سلميا” مع كوريا الجنوبية، ومدى استعداده للتخلي عن برنامجه النووي عن طريق التفاوض.
في القمة التي جمعته مؤخرا مع الرئيس الكوري الجنوبي مون، دعا كيم الى “نزع السلاح النووي كليا من شبه الجزيرة الكورية”، ووعد بايقاف كل الاختبارات وتفكيك مواقع الاختبار النووي في كوريا الشمالية. ولكن، وحسب ما تقوله خبيرة الأسلحة النووية دويون كيم من منتدى مستقبل شبه الجزيرة الكورية، ذلك لا يعني أن كيم جونغ أون على استعداد للتخلي عن اسلحته بل بالعكس.
وتقول، “أعلن بأن كوريا الشمالية أصبحت بلدا نوويا، وهذا ما تقوله القوى النووية المتطورة والمسؤولة. إذ لا حاجة لاستمرار الاختبارات بعد أن اختبرت اسلحتها النووية ست مرات. لذا فإن كيم جونغ أون يعزز موقعه وشخصيته فهو يريد أن ينظر إليه في هذه القمم على أنه رئيس دولة مسالمة ولكنها مساوية للولايات المتحدة.
هناك ثمة رأي يؤمن به العديدون بأن الغرض من الترسانة النووية الكورية الشمالية دفاعي بحت، وأن أسرة كيم رأت ما حل بصدام حسين ومعمر القذافي، فقررت أن الأسلحة النووية هي السبيل الوحيد لمنع محاولات تغيير النظام التي تقودها الولايات المتحدة.
ولكن منتقدي وجهة النظر هذه يقولون إن كيم جونغ أون ووالده لا يحتاجان قط الى الصواريخ العابرة للقارات لحماية نفسيهما. أحد هؤلاء هو البروفيسور برايان مايرز من جامعة دونغسيو في بوسان في كوريا الجنوبية. ففي كلمة ألقاها مؤخرا أمام الجمعية الآسيوية الملكية، قال “عجزنا عن منع هذا النظام من الحصول على أسلحة نووية يثبت أن هذه الأسلحة لم تكن يوما ضرورية لأمنه. فإذا كانت كوريا الشمالية دون أسلحة نووية عرضة للهجوم كما كانت ليبيا، لكانت هوجمت قبل عام 1998.
أما السبب الذي منع الهجوم على كوريا الشمالية فهو سهولة ضرب كوريا الجنوبية التي لا تبعد عاصمتها سول عن المنطقة المنزوعة السلاح التي تفصل بين الكوريتين الا بمسافة 50 كيلومترا وتقع ضمن مدى المدفعية الشمالية.
إهانة المارشال
إن لم تكن صواريخ كيم النووية ضرورية للدفاع، فما هو الغرض منها؟ الجواب، حسب دويون كيم، هو تحقيق ما يطلق عليه “فك الارتباط”، أو بعبارة أخرى منع الولايات المتحدة من نجدة كوريا الجنوبية عندما تقرر بيونغيانغ أن الوقت قد حان “لاعادة توحيد الكوريتين.”
وتقول، “اعتمادا على التصريحات الرسمية لكوريا الشمالية وتصرفاتها والتعليقات الخاصة التي يدلي بها زعماؤها، يبدو أن الغرضين من وراء الترسانة النووية هما الردع والاستخدام المحتمل في عملية التوحيد بالقوة للكوريتين. هذا ما يقولونه علنا وبشكل شخصي.”
من جانبه، يوافق مايرز ما ذهبت اليه كيم بأن الغرض من الأسلحة النووية هو توحيد شبه الجزيرة الكورية، ولكنه لا يعتقد أن هذا التوحيد سيتم بالقوة بالضرورة.
ويمضي للقول، “تحتاج كوريا الشمالية الحصول على قدرة ضرب الولايات المتحدة بالأسلحة النووية من أجل الضغط على الطرفين – الأمريكي والكوري الجنوبي – واجبارهما على التوقيع على معاهدتي سلام. هذه هي الصفقة الكبرى الوحيدة التي تسعى إليها.”
ويقول، “من شأن أي اتفاق مع واشنطن أن يتضمن انسحاب القوات الأمريكية من شبه الجزيرة الكورية. أما الخطوة التالية كما دأبت كوريا الشمالية على القول فتتمثل في شكل من أشكال الكونفدرالية بين الشمال والجنوب، الأمر الذي ما لبثت تطالب به منذ ستينيات القرن الماضي. ولكن على المرء أن يكون ساذجا جدا إذا لم يعرف ما سيحصل بعد ذلك.”
فالفكرة القائلة إن بلدا فقيرا ومتخلفا ككوريا الشمالية بإمكانه أن يفرض التوحيد على بلد متقدم وثري وقوي عسكريا تبدو فكرة مضحكة، وربما هي كذلك. ولكن برادلي مارتن يقول إن هذا هو هدف بيونغيانغ مهما بدا بعيد المنال.
ويقول، “طالما آمنت بأن اعادة التوحيد هو هدفهم الأول. يقول البعض إنهم – الشماليون – تخلوا عن هذا الهدف منذ أمد بعيد لأنهم يعرفون استحالة تحقيقه. ولكن هؤلاء يقللون من أهمية الثقة التي تكتسبها عندما تحظى بانتباه شعب بأسره. فالذي يدير الآلة الاعلامية في دولة ديكتاتورية يتمكن من اقناع الناس بأنهم قادرون على فعل أي شيء.”
كان مقررا أن أكون قطعت نصف المسافة الى العاصمة الصينية بكين، ولكن بدل ذلك ما زلت جالسا في غرفة كئيبة في أحد فنادق بيونغيانغ تزين جدرانها صور لكيم أيل سونغ وكيم جونغ أيل. وتبدو نظراتهما شريرة بشكل استثنائي.
شعرت بما يشبه الصدمة والدوران. كان يجلس أمامي عبر الطاولة رجل نحيل بدت التجاعيد على وجه من أثر سنوات طويلة من التدخين. كان الرجل يحدق في وجهي وفي عينيه نظرة تهديد.
قال لي وهو يلهو بسيجارة في يده، “يمكننا الإنتهاء من هذا الموضوع بسرعة تعود بعدها الى بلدك. إذا اعترفت بجرائمك واعتذرت عنها سينتهي الأمر. أما اذا رفضت، ستسوء الأمور جدا.”
كنت قبل ساعة من تلك المقابلة في مطار بيونغيانغ استعدادا للسفر الى بكين. أما الآن، فأواجه ساعات – وربما أياما – من التحقيق.
الجريمة التي ارتكبتها، حسب المحقق أجعد الوجه، هي “إهانة المارشال كيم جونغ أون.” شعرت بالغثيان.
فهذه مخالفة خطيرة. لم أكن متأكدا كيف أهنت كيم، ولم يكن المحقق متأكدا هو الآخر. ولكن الأمر لا يهم. فقد قررت جهة أخرى توجيه هذه التهمة لي، وعلى المحقق الحصول على اعترافي.
روبرت وينغفيلد هايز وهو محتجز في بيونغيانغ
بعد ساعات، تغير فريق التحقيق، واصبحت التهديدات أكثر رعبا. ينظر إلي محقق جديد بعيون باردة شريرة.
قال لي، :أنا الذي حققت مع كينيث باي. أعتقد أنك تعرف معنى ذلك.”
كنت أعرف ما تعني هذه العبارة فعلا. فكينيث باي رجل دين أمريكي من أصل كوري حكم عليه بالسجن لمدة 15 عاما مع الأشغال الشاقة. وقضى 735 يوما في السجن قبل أن يخلى سبيله بصفقة.
“إن هوية كيم تشبه هويات الملوك…فكل شخص أو بلد يعارضه أو يتحداه يواجه ردا لا محالة
كان استجوابي مرعبا حقا، ولكنه كان سرياليا أيضا. كنت قد دعيت الى بيونغيانغ لتغطية زيارة كان يقوم بها الى العاصمة الكورية الشمالية ثلاثة من الفائزين بجائزة نوبل. غير أنني احتجزت وهددت بالسجن لأن ما كتبته لم يعجب النظام.
بدا لي أن احتجازي ذا نتائج سلبية، ولكني لم أفهم الدور المسند لي، والذي يتلخص في نشر وجهة النظر الكورية الشمالية إلى العالم الخارجي دون أي نقد . لقد تجاوزت حدودي، ولذا أصبحت عدوا.
بعد أسابيع في العاصمة الجنوبية سول، فسر لي منشق كوري شمالي بارز الأمر.
قال، “جريمتك لم تكن أنك انتقدت كيم جونغ أون فحسب، ولكنك انتقدته في عاصمته.”
وعبر المنشق عن يقينه بأن الشخص الوحيد الذي كان صدق على احتجازي ومن ثم إطلاق سراحي هو كيم جونغ أون.
وقال، “كنت محظوظا جدا لأنك تمكنت من الخروج.”
يتفق مع ذلك البروفيسور بايك هاكسون، مدير مركز دراسات كوريا الشمالية التابع لمعهد سيجونغ في كوريا الجنوبية، إذ قال إني كنت محظوظا جدا لأني طردت فحسب.
“إن هوية كيم تشبه هويات الملوك، وأن كبرياءه لا يسمح بأي انتقاد أو معارضة…فكل شخص أو بلد يعارضه أو يتحداه يواجه ردا لا محالة.”
لكوريا الشمالية تاريخ حافل في احتجاز الأجانب لمخالفات بسيطة، وكيم جونغ أون بالذات لديه ولع بهذا التصرف. فمنذ عام 2011، أحتجز 12 أجنبيا و4 كوريين جنوبيين في بيونغيانغ.
قبل ثلاثة شهور فقط من احتجازي في عام 2016، حكم على سائح أمريكي شاب اسمه أوتو وامبير بالسجن لمدة 15 عاما مع الأشغال الشاقة لقيامه بسرقة ملصق جداري سياسي من على جدار أحد الفنادق. بدا الحكم غير متناسب على الإطلاق مع جريمته المزعومة.
المواطن الأمريكي أوتو وامبير رهن الاعتقال في كوريا الشمالية
أعيد وامبير لاحقا الى الولايات المتحدة، ولكنه كان مصابا بضرر خطير في الدماغ وتوفي في غضون أيام. يقول معظم المراقبين إن حالته كانت استثنائية، إذ أنه من النادر أن يعرض السجناء الأمريكيين للتعذيب الجسدي نظرا لقيمتهم الخاصة.
فبالنسبة لبيونغيانغ، يعد المحتجزون الأمريكيون بيادق في لعبة دبلوماسية لا أخلاقية. حيث يجبرون الحكومة الأمريكية على الشروع في مفاوضات مطولة تنتهي عادة بارسال مندوب رفيع المستوى الى كوريا الشمالية للاشراف شخصيا على عملية اطلاق سراح المحتجز. كان الرئيس السابق جيمي كارتر واحدا من هؤلاء المندوبين، وفي عام 2009، ذهب الرئيس السابق بيل كلينتون الى بيونغيانغ وعاد باثنين من الصحفيين الأمريكيين المحتجزين.
اصطحب الدبلوماسي الأمريكي المتقاعد ديفيد ستراوب كلينتون في تلك الرحلة.
قال ستراوب، “طالب الكوريون الشماليون بمجيء كلينتون، وكانت تلك هي الطريقة الوحيدة لاعادة الصحفيين. كان واضحا بأن كل ما يريده الكوريون الشماليون هو التقاط صور تجمع بين كلينتون وكيم جونغ أيل، ليثبتوا لشعبهم والعالم بأنهم نجحوا في إجبار الولايات المتحدة على الرضوخ لمشيئتهم.”
ولكن ما يريده كيم جونغ أون ليس رئيسا أمريكيا سابقا، بل الجلوس على طاولة واحدة مع رئيس أمريكي فعلي.
في التاسع من أيار / مايو الماضي، وصل وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو الى بيونغيانغ في ثاني زيارة له للعاصمة الكورية الشمالية في غضون شهر. إلتقى بومبيو بكيم جونغ أون، وسلم ثلاثة مواطنين أمريكيين كانوا قيد الاحتجاز في سجون الشمال.
كان رجل الأعمال الأمريكي من أصل كوري كيم دونغ تشول البالغ من العمر 65 عاما قضى أطول فترة قيد الاحتجاز (952 يوما). وكان الرئيس ترامب اشترط اطلاق سراح الثلاثة لحضور قمة مع كيم جونغ أون.
وقال الرئيس الأمريكي لدى استقباله الثلاثة المطلق سراحهم في قاعدة أندروز الجوية، “نود شكر كيم جونغ أون، الذي كان ممتازا في تعامله مع هؤلاء الثلاثة العظماء.”
تؤكد عبارات المديح هذه حرص ترامب على حضور قمة مع الزعيم الكوري الشمالي. بدأ كيم جونغ أون بالإقتراب من تحقيق هدفه.
BBC