هل توجد (بِدعَةٌ حَسَنةٌ) ؟!

إن من يقول بأن من (البدع) بدعٌ حسنة أو (مُحبّبة) أو (مستحبة) فقد أخطأ خطأ عظيماً ، فإن هذا القول ينافي ويناقض ما ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام ،

يقول العلّامة الشاطبي في كتاب الاعتصام تعقيباً على من قسّم (البدعة) إلى خمسة أقسام : (إن هذا التقسيم أمرٌ مخترع ، لا يدل عليه دليلَ شرعي ، بل هو في نفسه متدافع ؛ لأن من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي ؛ لا من نصوص الشرع ولا من قواعده ، إذ لو كان هنالك ما يدل من الشرع على وجوبٍ أو ندبٍ أو إباحةٍ ؛ لما كان ثَمَّ بدعةٌ ، ولَكان العمل داخلاً في عموم الأعمال المأمور بها ، أو المخير فيها. فالجمع بين كون تلك الأشياء بدعاً، وبين كون الأدلَة تدل على وجوبها أو ندبها أو إباحتها جمعٌ بين متنافيين) وقال – بعد ردّه على التقسيم بتفصيل – : (فما ذكر القرافي عن الأصحاب من الاتفاق على إنكار البدع صحيح ، وما قسمه فيها غير صحيح . ومن العجب حكاية الاتفاق مع المصادمة بالخلاف ومع معرفته بما يلزمه في خرق الإجماع . وكأنه إنما اتبع في هذا التقسيم شيخه من غير تأمل . فإن ابن عبد السلام ظاهر منه أنه سمى المصالح المرسلة بدعاً ، بناءً).

إن البدع هي شر الأمور كما جاء وصفها في حديث خطبة الحاجة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقولها ؛ وإن النبي صلى الله عليه وسلم قد لفظ البدع اللفظ الكلي الواضح الذي ما دخله تخصيص قط بقوله عليه الصلاة والسلام : ( كل بدعة ضلالة ) وهذه الجملة من أفضل الجمل فلفظة (كل) تفيد الشمول والعموم ، فهي جملة كلية مثبتة، لنأخذ بها للدلالة: ( كل بدعة ضلالة).

إن من قال إن في الدين بدعة حسنة أو قسّم البدع خمسة أقسام فقد أخطأ ، حتى وإن كان القائل عالم جليل ؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الحاكم على كل من يتكلم ، وإن الذي يقول: إن هناك بدعة حسنة، كأنما يقول: لا يا رسول الله! ليس كل بدعة ضلالة، بدليل وجود البدعة الحسنة، هذا معنى الكلام، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالقبول من كلام أي إنسان مهما كان جليلاً.

لنتأمل في النصوص التالية وتعليق بعض أهل العلم عليها :
قال النبي صلى الله عليه وسلم : (أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله و إن أفضل الهدي هدي محمد و شر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة و كل ضلالة في النار…) رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وصححه الألباني
قال المناوي في فيض القدير في شرح الحديث : (وإياكم ومحدثات الأمور) أي احذروها وهي ما أحدث على غير قواعد الشرع كما سبق (فإن شر الأمور محدثاتها) التي هي كذلك (وكل محدثة) أي خصلة محدثة).
وفي مختصر فيض القدير : ((وشر الأمور محدثاتها) جمع محدثة بالفتح وهي كما سبق ما لم يعرف من كتاب ولا سنة ولا إجماع. قال القاضي: روي شر الأمور بالنصب عطف على اسم إن وهو الأشهر وبالرفع عطف على محل إن مع اسمه (وكل بدعة ضلالة) أي وكل فعلة أحدثت على خلاف الشرع ضلالة لأن الحق فيما جاء به الشارع فما لا يرجع إليه يكون ضلالة إذ ليس بعد الحق إلا الضلال (وكل ضلالة في النار) فكل بدعة فيها وقد سبق ذا موضحاً بما منه أن المراد بالمحدث الذي هو بدعة وضلالة ما لا أصل له في الشرع …).

وفي الصحيح عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم- « مَنْ أَحْدَثَ فِى أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ ».
قال النووي في شرح الحديث : (وَهَذَا الْحَدِيث قَاعِدَة عَظِيمَة مِنْ قَوَاعِد الْإِسْلَام، وَهُوَ مِنْ جَوَامِع كَلِمه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ صَرِيح فِي رَدّ كُلّ الْبِدَع وَالْمُخْتَرَعَات .
وَفِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة زِيَادَة وَهِيَ أَنَّهُ قَدْ يُعَانِد بَعْض الْفَاعِلِينَ فِي بِدْعَة سَبَقَ إِلَيْهَا، فَإِذَا اُحْتُجَّ عَلَيْهِ بِالرِّوَايَةِ الْأُولَى يَقُول : أَنَا مَا أَحْدَثْت شَيْئًا فَيُحْتَجّ عَلَيْهِ بِالثَّانِيَةِ الَّتِي فِيهَا التَّصْرِيح بِرَدِّ كُلّ الْمُحْدَثَات ، سَوَاء أَحْدَثَهَا الْفَاعِل، أَوْ سَبَقَ بِإِحْدَاثِهَا .
وَفِي هَذَا الْحَدِيث : دَلِيل لِمَنْ يَقُول مِنْ الْأُصُولِيِّينَ : إِنَّ النَّهْي يَقْتَضِي الْفَسَاد . وَمَنْ قَالَ : لَا يَقْتَضِي الْفَسَاد يَقُول هَذَا خَبَر وَاحِد، وَلَا يَكْفِي فِي إِثْبَات هَذِهِ الْقَاعِدَة الْمُهِمَّة، وَهَذَا جَوَاب فَاسِد .وَهَذَا الْحَدِيث مِمَّا يَنْبَغِي حِفْظه وَاسْتِعْمَاله فِي إِبْطَال الْمُنْكَرَات، وَإِشَاعَة الِاسْتِدْلَال بِهِ) .
وفي الصحيح – أيضاً – قول النبي صلى الله عليه وسلم : (أَلاَ لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِى كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ أُنَادِيهِمْ أَلاَ هَلُمَّ. فَيُقَالُ إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ سُحْقًا سُحْقًا).

وهذا وعيد يدل على أن كل البدع ضلال يجب الحذر منها والبعد عنها وأن الوعيد في الآخرة ينتظر من يبتدعون ويحدثون في الدين ما لم يشرعه الله تعالى.
إن من أسباب الخطأ الذي وقع فيه بعض الناس بقولهم إنه توجد (بدعة حسنة) هو الخطأ في فهم النص في ضوء دلالة سبب نزوله أو وروده، فإن الكثير من نصوص الكتاب والسنة النبوية أحاطت بها ظروف وشروط ومناسبات ولا بد من إدراكها أثناء عملية التنزيل للنص على الواقع. والأمثلة على هذا الجانب أيضاً كثيرة جداً والتي تبين ضرورة أن يقف من يريد الاستنباط من النصوص الشرعية على سبب نزول الآيات القرآنية وورود الأحاديث النبوية، وقد وقع كثيرون في أخطاء عظيمة بسبب عدم مراعاة هذا الجانب المهم، من ذلك عدم الفهم الصحيح لحديث: «مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيءٌ…» الحديث، رواه مسلم في صحيحه كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار، فإن سبب ورود الحديث قصة وفد (مُضَر) الذين كانوا في حاجة ماسة للنفقة، وليس الحديث يفيد جواز إحداث تشريعات جديدة في دين الله تعالى، أو أنه يسع المسلم الإتيان بأمور جديدة يتقرب بها إلى الله تعالى كما قد فهمه بعض من يستدلون به على ذلك. ممن يصرون على فهم مخالف بل يناقض ما دلّ عليه الحديث. وإنما الحديث في بيان فضل من يبادر بعمل عمل صالح دلّ عليه الشرع فسار الناس بعده بعمله ، فإن له من الأجر مثل أجور من تبعه دون أن ينقص من أجورهم شيءٌ ، وفي المقابل من سار في طريق سيئ محرّم فاقتدى به بعض الناس في ذلك فإن عليه من الوزر مثل أوزار من يتبعونه والعياذ بالله ..

والحمد لله الذي أكمل لنا ديننا .. وأتم علينا النعمة .. وليسع من يريد النجاة السير على ما سار عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأمة المرضيين ، فإنهم عن علم وقفوا وببصرِ نافذ كفوا ..

د. عارف الركابي
صحيفة الإنتباهة

Exit mobile version