وهل يجوز غير التهنئة بذلك الإنجاز الضخم، وقد رأينا كيف حصدت حرب دولة جنوب السودان التي اشتعلت بين أبناء تلك الدولة خلال سنتين فقط من الأرواح ما لم تفعل الحرب التي أشعلها قرنق عام 1983 ضد الشمال على مدى اثنتين وعشرين سنة؟!
من يظنون بنا الظنون لن يصدّقوا أننا من أكثر الناس سعادة بانطفاء جذوة الحرب وحلول السلام في الجارة الجنوبية، فقد ظللنا نقول إن الضجيج في بيت جارك يُحرمك من النوم، فكيف بالحرب التي تُلقي عليك بأثقالها المتمثلة في النزوح الذي تعاني من تبعاته خزانة السودان المنهكة؟
نعم، فقد توافَد على السودان ما لا يقل عن مليوني جنوبي جراء الحرب الأهلية شكّلوا عبئاً هائلاً على الخدمات والموارد، في وقت كان السودان يعاني فيه من أزمة اقتصادية ربما لم يسبق لها مثيل في تاريخه الطويل.
ذلك وحده كافٍ ليجعل كل وطني غيور على مصلحة بلاده يغمره الفرح بسلام الجنوب، ناهيك عما يُمكن أن يحمله ذلك السلام من بشريات أخرى من بينها تدفّق بترول الجنوب عبر السودان إلى بورتسودان والذي يرفد الخزانة السودانية بمورد مهم، هذا فضلاً عن إنعاش اقتصاد دولة الجنوب بما يُعيد اللاجئين الجنوبيين إلى وطنهم ويخفّف من أعبائهم على الموارد والخدمات.
مهما كانت درجة حقد رئيس دولة الجنوب، لا أظنه سيُقابل ذلك الإحسان السوداني بشرٍّ وكيد، بل إني أميل إلى تصديقه هذه المرة، وربما لأول مرة، أنه سيبذل قصارى جهده لرد الجميل للرئيس البشير من خلال مسارين :
أولهما قطع الصلة بتابعيه من قطاع الشمال، الذين كانوا يتلقّون دعمه لإطالة أمد الحرب في جنوب كردفان والنيل الأزرق، سيما وأن القيادات أو (الكوماندرز) في قطاع الشمال التابعين للحركة والجيش الشعبي (لتحرير السودان) في دولة جنوب السودان وأخص بالذكر عبد العزيز الحلو وعقار وعرمان وعزت كوكو وعمار أمون، يحملون رتباً عسكرية في جيش دولة الجنوب (الجيش الشعبي)، بل إن الجيش الشعبي الجنوبي كان يدعم ويحتضن داخل أراضي دولته حتى متمرّدي دارفور الذين لطالما انطلقوا من دولة الجنوب لإشعال الحرب في الأراضي السودانية، وما معارك قوز دنقو ووادي هور وغيرهما إلا دليلاً دامغاً على ما أقول.
أظن أن ذلك كله سيتوقف كجزء من فاتورة رد الجميل، ولعل ما يشي بأن ذلك سيتحقّق ما أقدم عليه الرئيس سلفاكير حين قام مؤخراً بتقديم عربون صداقة لإثبات حسن النية وصدق التوجه بتغييره اسم الجيش الشعبي لتحرير السودان إلى اسم (قوة الدفاع الشعبية لجنوب السودان) فقد انقرض ذلك الاسم المستفز الذي احتفظت به دولة الجنوب حتى بعد أن انفصلت بدولتها المستقلة، وأظن أن ذلك يقتضي أن يقوم قطاع الشمال في الحركة الشعبية والجيش الشعبي (لتحرير السودان) باختيار اسم آخر بعد أن تخلى (والده بالتبني) عن اسمه القديم ورحل إلى موطنه تاركاً ابنه في العراء بعد أن (نفضه)!
المسار الثاني يتمثّل في أن يقوم سلفاكير بالضغط على الحركات المسلحة التي كان يدعمها بما فيها اتباعه السابقون من قطاع الشمال وحركات دارفور للدخول في تفاوض مع الحكومة للتوصل إلى سلام.
ليت سلفاكير يكمل جميله بأن يُغيّر اسم دولته من (جنوب السودان) الى اسم مستقل، فوالله إني لن أرضى أن يحمل بلدي اسماً يشي بأنه مجرد تابع لدولة أخرى، ولن أرضى أن يُسمى موطني السودان باسم (دولة شرق تشاد) أو (دولة جنوب مصر)!
تلك كانت أحلام (ظلوط) التي أرادها أولاد قرنق حين ظنوا أنهم سيوحدون السودان مرة أخرى ليحكموه، وها هو سلفاكير يُحطّم مشاريعهم المستحيلة واحدًا بعد الآخر، فلله در الرجل الذي حفر اسمه في جدار تاريخ بلاده .
الطيب مصطفى
صحيفة الصيحة