هل يعود الحق العام؟
حديث رئيس الوزراء وزير المالية معتز موسى في الهواء الطلق بمنتدى (إصلاح الاقتصاد السوداني) مثل مادة خصبة للكثير من القضايا الاقتصادية التي تتسيد المشهد سواء كتحديات أو وسائل لمواجهة هذه التحديات في سبيل الوصول لاقتصاد مستقر يستند على الإنتاج ويقوده الصادر. ولعل أبرز القضايا التي مسها معتز كانت قضية الإعفاءات الضريبية والجمركية بالإضافة إلى الشركات التي تجد الامتيازات والحماية بحكم قربها من دوائر السلطة إن لم تكن تابعة لها، وأخيرا حديثه عن التصدي بقبضة حديدية لكل محاولات إفشال استراتيجيته في الوصول بالاقتصاد إلى الوضع المنشود.
الإعفاءات الضريبية والجمركية.. هل يعود الحق العام؟
معتز موسى جدد التأكيد على عدم حدوث زيادات ضريبية أو جمركية في موازنة 2019م، مشددا في حديثه بمنتدى إصلاح الاقتصاد السوداني أمس الأول، على مراجعة كل الإعفاءات الخاصة بهما، وأضاف: من الخطأ منح منظمة أو مؤسسة أو أي جهة فرصة إعفاء لإدخال مكيفات أو معدات خاصة، ولكنّ الصحيح إعطاؤها ذلك في حالة تقديم تلك الجهات سلعة أو خدمة مباشرة للمواطنين. ويذهب الاقتصادي د.بابكر الفكي منصور في حديثه لـ(السوداني) أمس، إلى أن الإعفاءات الجمركية والضريبية تُعَدُّ في الأساس حق المواطن والمجتمع بمعنى أنها إيرادات يفترض أن تغذي خزانة الدولة، مشيرا إلى أن التصرف في هذه الموارد لا يحق إلا في حالة توفر ضمانات للإعفاءات بعدم إلحاق الضرر بالمصلحة العامة من حيث الإيرادات.
وأوضح الفكي أن الاستثناءات الجمركية والضريبية تأتي في ظروف محددة ومقيدة، أما فتحها بحسب الطريقة المعمول بها حاليا يُعَدُّ خللا يضر بالمصلحة العامة للبلاد.
سؤال جوهري طرحه الخبير بابكر بـ(هل شروط الحصول على منفعة تعادل منفعة الإعفاء الذي تم الحصول عليه واضحة؟)، وأشار إلى حالة بعض المستثمرين الذين يبدأون العمل ويحصلون على الإعفاءات ويستوردون مدخلات إنتاج وبعد مضي خمسة أعوام على سبيل المثال استفادوا خلالها من الإعفاءات وعدم دفع أي ضرائب، ينهون نشاطهم ويذهبون دون تحقيق منفعة للمواطن ومكاسب للبلاد.
ودعا الفكي إلى حصحصة كل الإعفاءات ثم وضعها في ميزان مستقيم لتفادي حالات إهدار المال العام، منوها إلى أن هناك حرصا شديدا على مضايقة المستثمر المحلي والمستورد الفرعي، بينما الاتفاقيات الكبيرة ذات الاستثناءات يحدث بها اختراق، مستدلا على ذلك بأن أصحاب مصانع النسيج بالجزيرة يشترون منتج القطن بسعر الصادر وهم ليسوا معفيين من أي شيء، ما يشكل معوقا للصناعة والإنتاج عليهم.
وأكد بابكر أن مراجعة الإعفاءات يجب عليها أن تُولي نظرة خاصة للتصنيع والإنتاج المحلي مع أهمية وضع تسهيلات لهم في حدود المعقول حتى يُنتج، إضافة إلى أن المستثمر الوطني أكثر حاجة للحماية ودعم الإنتاج.
التسويات ما تزال مستمرة واستثناءات خاصة
مصادر قطعت في حديثها لـ(السوداني) أمس، بأن الإعفاءات الضريبية والجمركية معنية بقائمة للسلع الرأسمالية من ضريبة القيمة المضافة، كميزة لتنفيذ مشروع استثماري، وأضافت: نسبة الإعفاءات في عام 2014م شكلت نسبة نحو 65% من الإيرادات المحصلة للجمارك والقيمة المضافة، وأوضحت أن تحليل التكلفة والعائد عند التقييم لهذه السلع الرأسمالية، جاءت من ناحية العائد الاقتصادي تساوي صفراً، وفي جانب الإيرادات أدت إلى ضياع إيرادات كبيرة جداً تقدر بمبالغ طائلة، كانت قادرة على سد العجز في الموازنة العامة.
ونوهت المصادر، إلى أن هناك تسوية ضريبية تمت لأحد رجال الأعمال مؤخرا بلغت نحو (500) مليون جنيه عبارة عن معالجة ضريبية، وأشارت إلى أن الفترة المقبلة ربما تشهد إحكام التنسيق بين ديوان الضرائب والجهات الأمنية المختصة وتوفير معلومات حول هذه الإعفاءات ومراجعتها، وربما يؤدي ذلك إلى رفد الخزانة العامة بمبالغ مقدرة، تسهم في سد عجز الموازنة.
من جانبه أشار الأكاديمي والاقتصادي د.محمد الناير، في حديثه لـ(السوداني) أمس، إلى أن الإعفاءات عادة تمنح للمستثمرين وفق قانون الاستثمار كتشجيع لهم وللمنظمات الدولية أحيانا حسب الاتفاق مع الدولة، بجانب منظمات يكون السودان دولة مقر لها، ثم فئات من الدبلوماسيين وغيرها من الجهات أخرى لديها امتيازات خاصة، وأضاف: رئيس الوزراء معتز موسى نوه إلى تحويل الإعفاءات لجهات محددة أو منظمات إلى إعفاء أنشطة يحتاج إليها الاقتصاد الوطني.
شركات (سوق الله أكبر).. كيفية الحماية؟
حديث رئيس مجلس الوزراء معتز موسى بأنه لا حماية لجهة في سوق (الله أكبر) وأنه لن تكون هناك أي حماية للشركات الحكومية ولا تمييز لأحد، فتح الباب واسعا في وجه الجهات والشركات المحمية من قبل الحكومة. وأشار الخبير الاقتصادى برفيسور الكندي يوسف لـ(السوداني) أمس، إلى أن سياسة الخصخصة للشركات الحكومية أعلنت منذ تسعينيات القرن الماضي بخروج الدولة من النشاط التجاري باعتباره عمل القطاع الخاص، لافتا إلى تأخر الخصخصة كثيرا، معتبرا وجود الشركات الحكومية يؤدي إلى تشويه السوق بالحصول على الإعفاءات خاصة في الضرائب والجمارك، في وقت يفترض فيه أن تحدد آلية السوق ما يحدث في السوق وفقا لمتغيرات العرض والطلب.
واعتبر الخبير الاقتصادي د.هيثم فتحي في حديثه لـ(السوداني) أمس، أن بعض الشركات الحكومية لا تدفع الضرائب أو الجمارك، مما يتنافى مع العدالة مقارنة بالشركات الحكومية الأخرى خاصة أن الميزانية العامة للدولة تعتمد على الموردين بشكل كبير. وقطع بأن العدالة تستوجب تصفية هذه الشركات أو معاملتها بالمثل أسوة بالشركات التجارية في دفع الضرائب والجمارك، خاصة أن القطاع الخاص كلف للقيام بنسبة (80%) من التنمية وهو الدور الاقتصادي الكامل.
وشدد فتحي على ضرورة خروج الحكومة من أشكال الإنتاج وترك العمليات الإنتاجية كافة في القطاعات الزراعية والصناعية والتجارية والخدمية للقطاع الخاص، ولفت إلى أن الحكومات في كل دولة تقدم الخدمات وتراقب فقط ولا تقوم بأعمال مثل الزراعة أو التجارة والصناعة باعتبار أن القطاع الخاص الأكثر كفاءة في الإدارة والتشغيل بينما الحكومة تختص فقط بتقديم الخدمات والرقابة ما يجعلها في منافسة غير عادلة مع القطاع الخاص الوطني الذي هرب بعضهم بأمواله للخارج، وتعثرت مصانع وتجارة من بقي في الداخل وذلك بسبب الامتيازات والإعفاءات من الضرائب والجمارك والسلطات التي تمنح لشركات الدولة خاصة أن الاقتصاد السوداني الآن ليس لديه أي قيود مثل السابق بعد رفع الحظر الأمريكي.
من المستهدف بالقبضة؟
التفلت وعدم انضباط الأسواق في الأسعار بجانب ممارسة العمل التجاري دون تقنين ورخص تجارية، فرض على رئيس الوزراء وللمرة الثانية التلويح باستخدام القبضة الحديدية على الأسواق لمنع الحماية أو التمييز لجهة على حساب جهات أخرى. وأكد رئيس تجار القطاعي بأم درمان أحمد النو، أن السوق يحتاج إلى مراقبة، داعياً إلى تقنين العمل التجاري وتنظيم الأاسواق، مشيراً إلى ضرورة التحكم في البضائع ومنع مزاولة العمل التجاري دون رخصة تجارية لجهة وجود عدد كبير من الأشخاص يعرضون البضائع في الشوارع والطرقات جنباً إلى جنب مع التجار مما خلق نوعاً من الفوضى تحتاج إلى رقابة, مؤكداً أن فرض رقابة وقبضة حديدية على الأسواق من مصلحة المواطن والتجار.
ويرى رئيس غرفة الغذائيات بولاية الخرطوم عبد الرحمن عباس في حديثه لـ(السوداني) أمس، أن قرار رئيس مجلس الوزراء صائب فيما يتعلق بفرض رقابة على الأسواق، وأن على الحكومة تفسير القبضة الحديدية والكيفية التي ستُنفِّذها بها، مؤكداً أن تنفيذ هذه السياسة ينصب في مصلحة المواطن لجهة أنها تفرض رقابة على الأسواق وتُقنِّن من العمل التجاري، داعياً إلى ضبط كل الخدمات المتعلقة بالأسواق.
ويرى رئيس الغرفة التجارية بولاية الخرطوم حسن عيسى في حديثه لـ(السوداني) أمس، أنه في ظل وجود اقتصاد حر لا تُنفَّذُ عليه رقابة أو قبضة حديدية وفي حال فرض قبضة حديدية على الأسواق، ستكون الدولة مطالبة بالتراجع عن سياسة التحرير لجهة أنها ليس سياسة مقدسة ويكون بديل لها رقابة السلع حتى يحفظ حقوق المواطنين والتجار، وأضاف: نحن كتجار نرحب بقانون رقابة السلع.
في المقابل، ناشد الخبير الاقتصادي د.عبد الله الرمادي في حديثه لـ(السوداني) أمس، رئيس الوزراء القومي وهو يعلن هذه القبضة الحديدية، أن يبادر بإعلان إيقاف العمل بما يُعرف بالاقتصاد الحر لجهة أنه يتعارض مع مبدأ هذه القبضة التنظيمية من ناحية، ومن ناحية أخرى يتعارض مع ما قبلته الدولة قبل عامين من العمل بموجب اقتراح البنك الدولي للشراكة بين القطاع العام والخاص الذي رغم إعلان قبول العمل به إلا أنه لم يُفعَّل حتى الآن.
وأشار الرمادي إلى وجود تفلت وعدم انضباط في السوق تسبب في الغلاء الفاحش، وهو نتيجة السياسة الخاطئة فيما يُعرف بسياسة تحرير الاقتصاد واعتبرها وصفة لا تلزم السودان إطلاقاً، فهي تُطبَّقُ على المجتمعات المنضبطة التي تعمُّها القوانين.
واعتبر الرمادي أن سياسة التحرير الاقتصادي بهذا المفهوم الخاطئ أسهمت في غياب الدولة عن الساحة الاقتصادية في العقدين الماضين تماما، وحل محلها مافيا السلع، وما من سلعة إلا وتكونت لها مافيا، والدولة غائبة بحجة أن النشاط الاقتصادي حر، وأضاف: اقتراح الاقتصاد بإجراء تنظيم السوق الذي يُعرف بقنوات التوزيع لم يكن بدعاً وإنما كان لضرورة، فمن واجب الدولة أن تهتم بقنوات التوزيع وتُحافظ عليها وهذا يعني أن تفعل الآليات تحت إشرافها لتشتري المنتج من المنتجين سواء كان زراعيا أو صناعيا، وتشتريه بسعر مُجْزٍ ومُنصف للمنتج وتبيعه للمواطن بأسعار مناسبة دون مغالاة وهذا هو دور قنوات التوزيع.
الخرطوم: ابتهاج متوكل – رحاب فريني – الطيب علي
صحيفة السوداني.