رجل فذ واستثنائي لن يتكرر في تاريخنا العربي المعاصر.
اليوم السودان ليس أحسن حالا مما كان عليه قبل أكثر من ثلاثين سنة، يوم أنهى سوار الذهب حقبة النميري. ما فعله الرجل عن كرم لم تقابله الأحزاب المتصارعة إلا بفظاظة عبرت من خلالها عن أسوأ ما ينطوي عليه الصراع الفئوي من رغبة في الانتقام.
رجل فذ واستثنائي لن يتكرر في تاريخنا العربي المعاصر. السوداني الذي دخل التاريخ بأريحية من جهة الزهد فيه وإنكاره وعدم الإنصات لأبواقه المثيرة. لقد قطع صلة بلاده الكئيبة والقاسية بالماضي غير أنه ترك للآخرين مهمة صناعة الحاضر والمستقبل وهو ما فشلوا فيه بامتياز.
عبدالرحمن سوار الذهب الذي توفي مؤخرا هو الرجل الذي أطاح بنظام جعفر النميري عام 1985 في استجابة منه لنداء الشعب الذي استعبده النميري بمزاجه المتقلب. أنهى الرجل حقبة عبثية من غير أن يعد ببقائه منقذا ومخلصا.
اعتبر ظهوره على المسرح السياسي الذي حدث من غير أي تمهيد مجرد فاصلة بين مرحلتين، تمنى أن تكونا مختلفتين. التزم بالوقت الذي قرره لنفسه رئيسا خامسا لجمهورية السودان. سنة واحدة فقط، لم يقبل بتمديدها. غادر يومها السلطة ونزع رتبته العسكرية.
ترك سوار الذهب لأبناء وطنه حرية أن يديروا المرحلة التي انمحت فيها آثار الحكم الفردي ليبدأوا بتقرير مصيرهم بأنفسهم. هل كان على يقين من أن الحياة السياسية في بلده هي على درجة من النضج التي تؤهلها لصناعة قدر ديمقراطي مباغت؟ أم أنه تخلى عن الحكم ليأسه من إمكانية أن يدير حياة سياسية بنيت على أساس عبثي مادته المصالح الحزبية الضيقة وغوايات السلطة؟
هل كان سوار الذهب خائفا من إدارة بلد، تتوزع مشكلاته بين الأديان والأعراق وتتجاذبه قوتا العروبة والأفرقة، الإسلام والمسيحية، بحيث يكون الفشل مضمونا من غير سلطة مستبدة، هو من أسقطها؟
تلك أسئلة لم يجب عليها الجنرال الذي قرر الذهاب إلى غيبته.
في كل المراحل التي تلت غيابه لم يدل سوار الذهب بتصريح سياسي، يستشف من خلاله شيء من الرغبة في أن يلتفت إليه أهل الحكم أو أهل المعارضة، كونه الرجل الذي صنع المعجزة.
توارى كما لو أنه لم يكن الصانع الماهر لفيض التحولات التي غمرت السودان بجمل حسن الترابي الطويلة التي ما هي إلا متضادات لغوية تضمر الكثير من الشرور التي سيدفع السودانيون ثمنها على يد المشير عمر حسن البشير الذي قرر أن يقتفي أثر خطوات سلفه جعفر النميري من غير أن يطمئن أو يغمض عينيه خشية أن تسلمه الغفلة إلى سوار ذهب جديد.
اليوم ليس السودان أحسن حالا مما كان عليه قبل أكثر من ثلاثين سنة، يوم أنهى سوار الذهب حقبة النميري إذا لم تكن أسوأ حالا. ما فعله الرجل عن كرم لم تقابله الأحزاب المتصارعة إلا بفظاظة سلوك عبرت من خلالها عن أسوأ ما ينطوي عليه الصراع الفئوي من رغبة في الانتقام من الآخر وتصفيته وحرمانه من حقوقه في التعبير.
حين انقلب عمر حسن البشير عام 1989 على الحكومة المنتخبة برئاسة الصادق المهدي فإنه انقض على حلم سوار الذهب في قيام دولة جديدة في السودان تسودها قيم ديمقراطية. غير أن المفاجئ أن سوار الذهب نفسه كان قد عبر غير مرة على انفتاحه على حكومة البشير، وهو تصرف لا يمكن فهمه واستيعاب أسبابه إلا من خلال التعرف على الظروف التي أدت إليه.
وعلى العموم فإن هفوة من ذلك النوع لن تؤثر على مكانة الرجل الذي عُرف بالتزامه الديني في التاريخ. لقد صنع وحده لحظة تاريخية لا يمكن أن تتكرر، مقارنة بما رأيناه من تشبث حكام عرب بالسلطة كما لو أنهم أصيبوا بلوثتها باعتبارها مرضا مزمنا لا خلاص منه إلا عن طريق الموت.
فاروق يوسف -كاتب عراقي
صحيفة العرب /بريطانيا