يعدّ الحصول على الإقامة أو الجنسية في الدول الأوروبية حلما صعب المنال لملايين المواطنين بالمنطقة العربية والعالم
عموما وللشباب خصوصا، غير أن الأمر مختلف بالنسبة للأثرياء، فقد وضعت دول أوروبية برامج لمنحهم إقاماتها أو جنسياتها بطريقة سريعة وميسرة مقابل مبالغ مالية يقدمونها. وتعرف هذه البرامج باسم التأشيرة الذهبية، إلا أن البعض استغل هذا الامتياز للقيام بممارسات ذات طابع إجرامي.
فقد أصدرت منظمة الشفافية الدولية (ترانسبرنسي) ومنظمة غلوبل ويتنس (المراقب العالمي) في أكتوبر/تشرين الأول 2018 تقريرا مفصلا خلص إلى أن دولا أوروبية فتحت الباب أمام المجرمين والفاسدين لنيل جنسياتها والإقامة فيها عن طريق التأشيرة الذهبية، وذلك باستغلال ثغرات ورخاوة وسوء إدارة هذه البرامج للتهرب من دفع الضرائب وغسل الأموال.
نتائج التقرير
منحت دول الاتحاد الأوروبي خلال السنوات العشر الأخيرة الجنسية لأكثر من ستة آلاف شخص، والإقامة لنحو 100 ألف آخرين بموجب برامج التأشيرة الذهبية.
وكانت إسبانيا والمجر ولاتفيا والبرتغال وبريطانيا أكثر الدول منحا للتأشيرة بما يفوق 10 آلاف لمستثمرين وعائلاتهم، وفي المقام الثاني نجد اليونان وقبرص ومالطا.
وباستثناء النمسا ومالطا، لا تنشر أي دولة قائمة الأشخاص الذين نالوا جنسيات أو إقامات لديها، ولا تكشف سبع دول أوروبية من أصل 17 دولة لديها برنامج للتأشيرة الذهبية عن حجم الأموال التي حصلت عليها من هذه البرامج.
ويقول تقرير تسرانسبرنسي الدولية إنه بعد تحليل لبرامج التأشيرة الذهبية بكل من قبرص ومالطا والبرتغال تبيّن أن هذه البرامج تعاني من ضعف في الاشتراطات المطلوبة، مع وجود سلطات تقديرية واسعة وتضارب للمصالح قد يجعل هذه التأشيرة مرتعا للفساد في أوروبا، خصوصا وأن تلك الدول الثلاث ورغم مراجعتها لبرامج التأشيرة لا تتحرى عن مصدر ثروات طالبي التأشيرة، أو تمويلاتهم أثناء النظر في طلباتهم.
ويشير التقرير إلى أن برامج التأشيرة الذهبية هي بطبيعتها جذابة للمجرمين والفاسدين، وبالتالي فإن المخاطر التي قد تأتي من بعض طالبي هذه التأشيرة تتطلب أقصى درجات التشدد في شروط منحها، واعتماد إجراءات قوية لحماية نزاهة دول الاتحاد.
لماذا التأشيرات؟
بعدما ضربت الأزمة المالية العالمية في العام 2008 اقتصادات الدول الأوروبية وأدخلتها في موجة من الركود، فكرت دول عدة في طرق لاستقطاب الاستثمار الأجنبي المباشر بأقل كلفة وبأسرع طريقة، فكانت فكرة التأشيرة الذهبية.
وتظهر أهمية هذا المورد أكثر بالنسبة إلى الدول الصغيرة، إذ إن بيع الجوازات شكل 5.2% من الناتج المحلي الإجمالي لقبرص في العام 2018.
متى البداية؟
كانت النمسا أول دولة أوروبية تطلق برنامجا للتأشيرة الذهبية في العام 1985، وتلتها بريطانيا في 1994 ثم فرنسا في العام 2009، غير أن أغلب البرامج الأوروبية أطلقت في عامي 2012 و2013 في ست دول، وكانت آخر الدول الأوروبية التي اعتمدت التأشيرة الذهبية هي لكسمبورغ في العام 2017.
مجسم كرنفالي ساخر لرئيس وزراء مالطا جوزيف موسكات وهو يحمل جواز سفر معلقا عليه سعره في انتقاد لبرنامج البلاد لبيع جنسيتها للأجانب مقابل المال (رويترز-أرشيف)
حجم الإيرادات
يقدر حجم الإيرادات العالمية من التأشيرة العالمية بنحو 13 مليار دولار سنويا، منها ثلاثة مليارات تخص برامج الجنسية، والباقي لبرامج الإقامة.
وقد استفادت الدول الأوروبية التي تتوفر على برنامج التأشيرة الذهبية من استثمارات مباشرة بقيمة 25 مليار يورو خلال السنوات العشر الأخيرة، وأوروبا هي أكبر سوق للتأشيرة الذهبية في العالم.
وتتفاوت كلفة التأشيرة من بلد أوروبي لآخر، وتختلف أيضا طبيعة توظيف الاستثمار المطلوب مقابل نيل الإقامة أو الجنسية، ففي الوقت الذي يكلف فيه نيل الإقامة باليونان ولاتفيا ربع مليون يورو، فإن الحصول على الجنسية في قبرص يكلف مليوني يورو، ويصل المبلغ إلى عشرة ملايين يورو بالنسبة للجواز النمساوي.
ويتم ضخ الاستثمار المطلوب لنيل التأشيرة إما بشراء عقار، وإما بشراء سندات حكومية، وإما بالاستثمار في صناديق استثمارية حكومية أو على شكل تبرعات.
من يشتري؟
ذكر تقرير لمنظمة الشفافية الدولية أن المستثمرين الصينيين شكلوا 61% من الحاصلين على التأشيرة في البرتغال منذ بداية العمل بهذا النظام، و83% في المجر، في حين شكل المستثمرون الروس 70% من الحاصلين على التأشيرة في لاتفيا.
ما المشكلة؟
زيادة على الإشكال الأخلاقي الذي يطرحه بيع الجنسية والإقامة وكأنها سلعة معروضة في السوق، فإن الأمر مرتبط أيضا بالأمن القومي الأوروبي، فالتأشيرة لا تمنح فقط الجنسية أو الإقامة في البلد الأوروبي المعني، ولكن في كل بلدان الاتحاد الأوروبي، كما أن ثمة جانبا أكثر خطورة متصلا باستغلال هذه التأشيرة للقيام بأعمال إجرامية أو ممارسات فساد داخل فضاء شينغن.
وحذرت تقارير لمنظمات حكومية وغير حكومية بأوروبا من أن التأشيرات الذهبية توفر ملاذات آمنة للفاسدين، وتتيح حيازة الإقامة أو الجنسية الأوروبية لصاحبها هامشا للإفلات من العقوبات الدولية، ومن متابعات قضائية في بلدانهم الأصلية.
ونشرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية -ومقرها باريس- يوم 16 أكتوبر/تشرين الأول 2018 تقريرا قالت فيه إن برامج التأشيرة الذهبية تهدد الجهود الدولية لمحاربة التهرب الضريبي.
وأشار تقرير المنظمة الدولية إلى أن ثلاث دول أوروبية هي مالطا وموناكو وقبرص ضمن الدول التي تتيح برامج عالية المخاطر لبيع إقامتها أو جنسيتها، وحذرت المنظمة من أن سوق مقايضة الجنسية مقابل المال قد حوّل الجنسية إلى سلعة، كما أنه يعيق فعالية تبادل المعلومات الضريبية بين الدول لمحاربة ظاهرة التهرب، إذ قد يساء استعمال برامج التأشيرة الذهبية لتغيير المقر الضريبي لتفادي تدقيق السلطات المختصة.
وتقول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إن برامج التأشيرة الذهبية تتضمن ثغرات تتيح مجالا للشطط في استعمال مزايا هذه البرامج لممارسة غسل الأموال والتهرب الضريبي.
وقبل ذلك بسنوات، صوّت البرلمان الأوروبي في يناير/كانون الثاني 2014 على قرار غير ملزم يقضي برفض بيع حق المواطنة الأوروبية أو جنسية إحدى الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وعبّر البرلمان الأوروبي عن قلقه من سعي بعض الدول الأعضاء -وخاصة مالطا- لبيع حق المواطنة فيها لقاء مبلغ مالي وكأنها سلعة.
وفي أغسطس/آب 2018 تعهدت المفوضية الأوروبية بمعاقبة دول الاتحاد التي تتيح إمكانية شراء جواز سفر أوروبي للأثرياء وربما للمجرمين، محذرة من أن الأمر قد يتحول إلى “حصان طروادة” يهدد أمن المنظومة الأوروبية.
فضائح متتالية
– رامي مخلوف: حاول المليادير السوري رامي مخلوف ابن خال الرئيس السوري بشار الأسد استخدام نظام التأشيرة الذهبية لتفادي العقوبات المفروضة عليه، إذ أدرج مخلوف ضمن لائحة العقوبات الأميركية في العام 2008 بسبب دوره في ممارسات الفساد ببلاده.
وفي بداية العام 2011 وبعد محاولات فاشلة للحصول على الجنسية النمساوية بواسطة التأشيرة الذهبية، حصل مخلوف على الجنسية القبرصية، وفي وقت لاحق حصلت عليها أيضا زوجته وثلاثة من أبنائه.
قبرص سحبت جنسيتها من رامي مخلوف بعدما فرض عليه الاتحاد الأوروبي عقوبات بسبب علاقته بنظام بشار الأسد (أسوشيتد برس)
وفي مايو/أيار 2011 فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على مخلوف لمساهمته في تمويل نظام الأسد، لتسحب منه السلطات القبرصية الجنسية في مارس/آذار 2013.
– عطية الخوري: ذكرت وسائل إعلام مجرية في العام 2014 أن رجل الأعمال السوري عطية الخوري المقرب من بشار الأسد حصل في غضون 10 أيام على رخصة إقامة مؤقتة في المجر بعدما تقدم بطلب في إطار برنامج التأشيرة الذهبية الذي بدأ العمل به في العام نفسه.
وأوضح موقع “ديريكت36” المتخصص بالصحافة الاستقصائية بالمجر، أن الخوري حصل على الإقامة الدائمة في العام 2017، رغم أن واشنطن وضعته في صيف العام 2016 في لائحة العقوبات لدوره في دعم النظام السوري عن طريق تحويل أموال بين سوريا ولبنان وروسيا.
– فنلندا/مالطا: في سبتمبر/أيلول 2018 داهمت الشرطة الفنلندية مقر شركة عقارية يملكها روسي حاصل على جواز سفر مالطي، وذلك عقب الاشتباه في تورطه في غسل أموال بقيمة 10 ملايين يورو، وكشفت وثائق الشركة أن الروسي بافل ملنيكوف نال الجواز في أغسطس/آب 2015.
– البرازيل/البرتغال: كشفت صحيفة غارديان في سبتمبر/أيلول 2017 أن مسؤولين في شركات بالبرازيل متورطين في فضيحة فساد في البلاد حصلوا على تأشيرات ذهبية من البرتغال، كما كشفت الصحيفة نفسها أن مليارديرات روسا وأوكرانيين متهمين بقضايا فساد حصلوا على الجنسية الأوروبية عن طريق تقديم طلبات تأشيرة في قبرص.
– الصين/البرتغال: في نوفمبر/تشرين الثاني 2014 اعتقلت الشرطة عددا من المسؤولين الحكوميين في إدارة الهجرة والحدود ووزارة العدل بسبب اتهامات لهم بإدارة شبكة تتلقى رشى وهدايا مقابل منح تأشيرات ذهبية لأشخاص من الصين أو غض الطرف عن الإخلال بشروط منح التأشيرة، وعقب هذه الفضيحة استقال وزير الداخلية آنذاك ميغيل ماسيدو، وقالت حكومة لشبونة إن برنامج التأشيرة أصبح يخضع لإجراءات فحص أمني مشددة.
– المجر: علقت السلطات المجرية في مارس/آذار 2017 العمل ببرنامج التأشيرة، ثم ألغته في يوليو/تموز 2018 نتيجة ضغوط من المجتمع المدني ووسائل الإعلام، وذلك عقب تسريب معلومات عن أن الحكومة أسندت صلاحية بيع الإقامة مقابل شراء سندات حكومية لثماني شركات دون المرور عبر مناقصة عمومية، سبع من تلك الشركات مسجلة خارج المجر، ولا تتوفر معلومات بشأن الأشخاص الذين يمتلكونها.
– مالطا: اتهم كبير موظفي رئيس الوزراء في العام 2015 بتلقي عمولات مقابل منح جوازات سفر لثلاثة روسيين في إطار برنامج التأشيرة الذهبية، وهو ما دفع نوابا في البرلمان الأوروبي لدعوة رئيس الوزراء المالطي جوزيف موسكات للاستقالة.
الجزيرة