رحم الله المشير سوار الدهب فقد كان رجلاً زاهداً متواضعاً سمحاً حيياً كريماً شجاعاً بما لا يُجارى فيه أو يُنافَس
، جمع من صفات الكمال الإنساني ما يصعب حصره أو عدّه، فقد وسع الناس كل الناس – من عرفه ومن لم يعرفه – بسمو أخلاقه وتواضعه.
أهم من ذلك أن سوارالدهب تفرّد بما لا يقوى عليه غيره، فقد قهر نفسه ولم يتبعها هواها بل ترفّع عن لعاع الدنيا بسمو ملائكي لا يشبه السلوك البشري، وهل من هوى أقوى من شهوة السلطة التي أخضعت لسلطانها أبانا آدم رغم أنه نبي، فعصى ربه وانصاع لإغراء الشيطان المتمثل في الاستجابة لغريزة مركوزة في النفس الإنسانية طلباً للخلود والملك الدائم: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَىٰ).
لكن سوار الدهب أدهش الدنيا بأجمعها حين ترفّع عن ذلك وصمد أمام إغواء الشيطان مما رفعه مكاناً عليّاً ليس بين السودانيين فحسب، إنما بين شعوب العالم أجمع سيما وأن ما فعله كان أمراً غريباً في أمتنا الإسلامية منذ القدم، والتي عانت صنوفاً من القهر والاستبداد (والكنكشة) والاستماتة في سبيل البقاء في الحكم الأبدي، مما حمل الناس جميعاً على إنزال سوار الدهب منزلة رفيعة جرّاء ذلك السلوك الفريد، فقد أوفى بما عاهد عليه الله تعالى، ثم الشعب السوداني بتسليم السلطة لحكومة منتخبة بعد عام واحد من استيلائه عليها اضطراراً، عقب انتفاضة عام 1985، وذلك لتجنيب البلاد أخطارًا مُحدقة وفتنة مخيفة كانت كفيلة بإغراقها في أتون الفوضى والاضطراب الكفيل بإزهاق روحها ووجودها على يدي تمرّد كان يتهدّدها من تلقاء الجنوب.
كانت أحزاب وقوى سياسية بل كان الشعب السوداني كله لا يُمانع بل يُرحب بأن يواصل سوار الدهب حكم البلاد سيما وأنه مسنود من القوات المسلحة، بل كان الظرف السياسي المحتقن يدعوه للاستمرار سيما وأن المتمرد قرنق ظل رافعاً للسلاح مستغلاً ظرف الاضطراب الذي صاحَب الانتفاضة لتحقيق أجندته المدمرة، لكن سوار الدهب أصر على الوفاء بعهد قطعه فركل سلطة أتته تجرجر أذيالها في زهدٍ عجيب لا يجاريه فيه أحد.
هل أستدعي أقوال المحبين من خارج الحدود الذين تباروا في ذكر طباع الرجل، أم أورد مشاهد الأسى والحزن في وجوه أصحاب الحاجة والمتسوّلين الذين حاصروا منزله في حي الرياض بالخرطوم، وهم يبكون حالهم بعد رحيل كافلهم ومواسيهم، أم أحكي عن عارفي فضله ومناقبه ممن عاصروه في حله وترحاله داخل السودان وخارجه؟
أسرتني بل وأبكتني تلك القصة المتداولة في الأسافير والتي رواها شيخ وقور يبدو من لهجته أنه مصري حكى أنه رأى سوار الدهب الذي جمعته بهم خيمة واحدة في عرفات.. رآه يزيل التراب من حذاء أحدهم ويضعه أمامه ويُقدم الماء للحجيج ليتوضؤوا في الخيمة، ولما شاهده الناس على تلك الحال صاروا يطلبون منه خدمتهم التي ما كان يتردد في القيام بها، وما كان يعرفه أحد حتى دخل عليهم أحد السودانيين ممن يعرفونه فهش في وجهه وخاطبه بيا (سيادة الرئيس) مما لفت إليه أنظار الناس الذين فغروا أفواههم في اندهاش وغيّروا من معاملتهم له!
هل أحكي عن ذلك الطبيب السعودي د. خالد الحربي الذي كتب عن كيف كان سوار الدهب يقف في صف المرضى في عيادة عامة للحجيج إلى أن جاء دوره فبدأ في علاجه وهو لا يعرفه ودخل عليه بالصدفة وهو في تلك الحال أحد الفنيين السودانيين فعرف سوار الذهب ورحّب به مما جعل الطبيب يعرفه ويكتب عن تلك الواقعة بلغة المعجب المندهش من ذلك السلوك الملائكي!
حكت لي ابنة أختي آمنة المامون الموظفة بأحد البنوك قبل نحو ثلاثة أشهر أنه بينما كانت أزمة السيولة على أشدها أن أحد موظفي البنك شاهد سوار الدهب واقفاً في صف طويل أمام البنك في انتظار دوره ليصرف المبلغ المتاح فعرفه وأخبر مدير البنك الذي جاء مسرعًا ليخدم المشير، لكن كل رجاءات المدير فشلت في إقناع الرجل الزاهد لطلب مبلغ أكبر مما يُمنح لبقية المواطنين!
كان كثيراً ما يتجنّب أن يصحبه من يعرف الناس بشخصه ولذلك كثيراً ما تجده يمشي بين غمار الناس في نكران ذات تخصص فيه وأجاده، وما ذكرت تلك النماذج مما أعلم إلا لأتساءل عما لا أعلم وما لا يعلمه أحد من خبايا في سيرته الناصعة سوى ربه سبحانه.
هل أحكي عن مقال الوزير السعودي د. أحمد التويجري المفطور القلب برحيل سوار الدهب، أم أحكي عن قصائد الشعر وكلمات الإعجاب والتوقير التي ألقاها شعراء وكتاب ومسؤولون عرب بين يدي تكريمه بالجوائز مثل جائزة الملك فيصل التي استحقها بعطائه في مجال الدعوة الإسلامية، أم أحكي عن ذكرياتي معه وأنا أستنجد باسمه في العمل الخيري العام مستغلاً لين عريكة وطيبة مغروسة في ثنايا خصاله العجيبة التي تجعله لا يرد من يطلب عونه في أي عمل خير مهما كان تافهاً؟
لم أجد أحداً تمثل الآية الكريمة: ( …وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، مثل سوار الدهب الذي طبّقها بحذافيرها في شتى مناحي الحياة بل لم أجد من عاش الزهد في أسمى معانيه مترفعاً عن (العلو في الأرض) الذي قال الله تعالى فيه: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
يصعب تعداد أدواره العظيمة في شتى ضروب العمل الدعوي على مستوى العالم الإسلامي، بل والعالم أجمع أو في المجال السياسي، توفيقاً بين مكونات السودان السياسية فقد فقدته الدعوة والعمل الإنساني، وفقده السودان والعالم الإسلامي كله، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
عندما رأيت قبره في (بقيع الغرقد) بجوار قبر ذي النورين عثمان بن عفان قلت : لا غرو، فلعله ذلك الحياء العجيب الذي اتصف به حين كرّمه الله تعالى بمجاورة الخليفة الراشد الثالث الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه تستحي منه الملائكة.
كان عطاؤه ثرًا في الدعوة، فقد قاد منظمة الدعوة الإسلامية رئيساً لمجلس أمنائها في وقت عصيب أُخضع فيه العمل الإسلامي للمراقبة اللصيقة من أعداء الإسلام الذين وسعوا من تعريف عبارة (الإرهاب) ليحاصروا المحسنين ويخنقون الدعوة الإسلامية، وكان يحتسب كل ذلك لوجه الله ولا يتقاضى عن ذلك شيئًا من حطام الدنيا راجياً الأجر عند رب كريم يجزل العطاء للمحسنين.
كان سوار الدهب مفتاحاً ضخماً للخير، مغلاقاً عظيما للشر، وذلك ما يخيفني أن يغادرنا رجل تُستَمطر به السماء، وتكف ببركته الشرور، وأسال الله تعالى ألا تكون مغادرته دنيانا نذيراً بفتن قادمات.
ألا رحم الله سوار الدهب، وأنزله مكاناً علياً مع الصديقين جزاءً وفاقاً لزهده وتواضعه لربه سبحانه.
الطيب مصطفى
صحيفة الصيحة