شهر أكتوبر، هو عادة شهر انطلاق أفلام الرعب من هوليوود إلى السينما، وذلك نظرًا للأعياد التي تُصادف هذه الفترة، مثل عيد الهالوين. تصاعدت صناعة أفلام الرعب مؤخرًا وازدادت قاعدة مشاهديها وصارت تحقق أرقامًا قياسية في مرات المشاهدة والتحميل وشراء نسخ البلوراي
، وهو ما يقودنا إلى تساؤلٍ كبيرٍ: لماذا يحب الناس أفلام الرعب؟ لماذا يشعر الناس بالحاجة إلى الوصول إلى غريزة الخوف في دواخلهم؟ لماذا قد يجلس البعض خلال مشاهد الرعب والدم والقتل؟
يجيب على هذا السؤال، عالم النفس البروفيسور غلين دي والتر، ويقول إن هناك ثلاثة عوامل رئيسية تدفع الناس وتجذبهم نحو مشاهدة أفلام الرعب. أول هذه العوامل هو التوتّر، وهو ما يخلقه المنتجون والمخرجون عن طريق تضمين عناصر الغموض والإرجاء والدماء والهلع والصدمة. أما العامل الثاني، فهو عنصر العلائقية، حيث تتضمن أفلام الرعب عناصر يستطيع المشاهد التعرف إليها وفهمها وربطها بحياته الشخصية، بل وتسعى بعض الأفلام إلى تضمين عناصر عالمية موحدة مثل الخوف من الموت والخوف من المجهول لتصل إلى أوسع رقعة مشاهدين حول العالم، وبعضها الآخر يكتفي بذكر عناصر مرتبط بثقافة واسعة عالمية مثل الثقافة المسيحية في فيلم الراهبة The Nun أو القضايا الاجتماعية، وطبعًا العلاقة الشخصية، وهي عندما يشعر المشاهد بارتباط بينه وبين شخصية البطل في المسلسل أو يشعر بحقد أو استنكار تجاه شخصية الخصم/العدو في الفيلم. وختامًا، العامل الثالث، من وجهة نظر والتر، هو عامل اللاواقعية؛ فعلى الرغم من أن صناعة أفلام الرعب تطورت مؤخرًا وصار تصويرها مقاربًا جدًا لمشاهد القتل والدم في الواقع، إلا أن المشاهد يعلم في داخلهِ أن ما يشاهده ليس حقيقيًا.
بيولوجيا الخوف
يُغرق الخوف أدمغتنا بمواد كيميائية تشعرنا بأننا بخير. الشعور بالخوف في الطبيعة يُحفز داخل أدمغتنا ما يسمى بتأثير “الكر والفر”. وأوضحت عالمة الاجتماع مارغي كير (المتخصصة في دراسة الخوف): “عند الشعور بالخطر، يتفعل الحس التيقظي، يفعّل شلالات من النواقل العصبية والكيميائيات التي تجعلنا نشعر بشعور جيد، إلى جانب عدد من الهرمونات أيضًا، مثل الإندورفين والدوبامين والسيروتونين والأدرينالين التي تؤثر بدورها على عمل أدمغتنا وأجسادنا. ولكن عندما نعلم أننا آمنون في أثناء مشاهدة أفلام الرعب، فإننا نفسّر ونستوعب حالة التيقظ هذه كتجربة إيجابية”. ويقول الدكتور لطفي أحمد المتخصص في علم اجتماع التحليل النفسي: “لا يمضي كثير من الوقت لندرك أن الخطر ليس حقيقيًا، وأننا في أمان حقًا، وهو ما يحوِّل حالة الشعور من الخوف إلى الاستمتاع والضحك، ولهذا نسمع الكثير من الصراخ المصحوب بالضحك في قاعات السينما في أثناء عرض أفلام الرعب”.
وكما أوضحنا، فإنه وبالنسبة للبعض، تكون المستويات العالية من الإثارة والتيقظ ممتعة. ويقول غلين سباركس إن حوالي 10 في المائة من المشاهدين فقط يستمتعون باندفاع الأدرينالين المرتبط بأفلام الرعب. ولكن بالنسبة للآخرين، فإن أفلام الرعب والبرامج التلفزيونية تعد مزعجة. ويضيف سباركس بأن بعض الأفراد “يواجهون صعوبة أكبر في فحص وتجنب المحفِّزات غير المرغوبة في بيئتهم”، وهؤلاء يكونون أكثر عرضة لردود فعل فيزيولوجية ونفسية سلبية للرعب المستحدث.
يقول الأستاذ المساعد في جامعة مانهاتن مايكل جرابوسكي: “عادة وعند مشاهدة هذا النوع من الأفلام، فإننا نثبط الجزء المسؤول عن حركة أجسادنا في الدماغ، إلا أن المحفّزات [التي تتأتى بفعل مشاهد الرعب الصادمة] تكون قوية للدرجة التي تجعلها تتغلب على نظام تثبيط الحركة، وتجعلنا نقفز أو نصرخ وهذا لأن الفيلم قد تجاوز حالتنا الهادئة (العقلانية) ووصل إلى غريزة البقاء البدائية لدينا، وهو ما يحفز لدينا استجابة أولية سريعة لحماية أنفسنا وتحذير الآخرين قبل أن نأخذ فترة بيننا وبين أنفسنا لمعالجة نوع التهديد أو الخطر. ويكون الصراخ هو وسيلة تنبيه الآخرين في نفس المجموعة الاجتماعية ووسيلة أيضًا لإخافة المهاجم. هذه اللحظات البدائية تُبطل لدينا عملية التفكير العقلاني والتي تعلم بأن مصدر الخطر ليس حقيقيّاً. هذه اللحظات تعيدنا إلى طبيعتنا البدائية الأولى حيث افترض فرويد بأن أفلام الرعب مصدرها “الوادي المجهول” أو الخارق للطبيعة والغريب، فتسترجع أفلام الرعب عند الأفراد الصور والأفكار والمشاعر المعروفة بالـ”الجينات البدائية” التي قُمعت بسبب الأنا المتحضر.
سيكولوجيا الخوف
كان الخوف وما زال موطن اهتمام بالنسبة للعلماء وأطباء النفس، وهناك العديد من الدراسات التي حاولت تفسير سر الشعور بالفرح والابتهاج بعد مشاهدة أفلام الرعب، وأهمها دراسة “التمتع بواسطة الخوف والعنف: تحليل”، والتي كانت قادرة على الخروج بمجموعة من الفرضيات المُجمَع عليها لتفسير تحقيق أفلام مثل منشار Saw أو الراهبة The Nun لأرقام قياسية وبقاء بعضها في قائمة البوكس أوفيس لفترة طويلة. ويجدر بالذكر هنا أن أفلام الرعب تعد رخيصة الإنتاج جدًا، وهو ما يفسر غزارة وكثافة إنتاجها في هوليوود مؤخرًا.
فرضية نقل الإثارة
أما عن أهم هذه الفرضيات المجمع عليها، فهي نظرية نقل الإثارة The Excitation Transfer، حيث لاحظ الدكتور سباركس، أن الناس وفي أثناء مشاهدة أفلام الرعب، تزيد لديهم معدلات دقات القلب وضغط الدم وسرعة التنفس وأيضًا الحالة العاطفية للمشاهد، وعند انتهاء الفيلم تستمر هذه الاستثارة الفيزيولوجية في التواجد، وهو ما يعني أن أي مشاعر إيجابية ستشعر بها في تلك اللحظات ستكون مكثفة ومضاعفة، وعليهِ ومن ناحية نفسية، فإن المشاهد سينسى الرعب الذي شعر به في أثناء الفيلم وسيتذكر فقط اللحظات الجميلة والممتعة التي خبرها وجرّبها، وهو ما يجعه يعود لمشاهدة المزيد من الأفلام الرعب.
فرضية التقمص العاطفي
حسب رون تامبروني في دراسته “أفلام الرعب: دراسة جارية حول تفضيلات الجمهور وردات فعلهم”، المنشورة عام 1996، فإن الناس بمعدلات تقمص عاطفي منخفضة يحبون أفلام الرعب أكثر من غيرهم، وأن الناس بمعدلات تقمص عاطفي مرتفعة لا يحبون هذا النوع من الأفلام أبدًا لأنهم يتفاعلون سلبًا مع معاناة الآخر(ين). وحسب نفس الدراسة، فإن محبي أفلام الرعب يلجؤون إلى تبرير موقفهم بقولهم إنهم لا يحبون أن يروا المقاطع التي تظهر أناساً يُحرجون أمام الجميع وأنهم لا يستمتعون برؤية أحد ينتحر أو يُقتل، وأن المشاهد في هذه الأفلام لها بعد رعب خيالي، وهو ما يختلف عن الرعب الحقيقي، وتبين أنه وبعدما حُذفت الأفلام التي تتسم بالعنف الشديد والتعذيب من هذه الدراسة، انخفض الارتباط العكسي بين التقمص العاطفي (التعاطف) والمتعة.
هناك شكل آخر لهذه الفرضية، ربما أقوى من الشكل الأولي لها ويعتمد هذا الشكل على تعريف التقمص العاطفي “في أن تضع نفسك مكان الشخص الآخر”، حيثما يكون التمتع بأفلام الرعب متوقفًا على انفصال المرء عن الأخطار الموجودة في تلك الأفلام. فلو كنت غير قلقٍ على سبيل المثال من أن دمية شيطانية ستسيطر على الأشياء غير الحية في منزلك (مثل فيلم Annabelle أو فيلم Chuck)، فيمكنك بسهولة الاستمتاع بمشاهدة الأمر نفسه يحصل لشخص آخر.
خلصت دراسات أخرى إلى أن أولئك الذين يحبون أفلام الرعب يميلون إلى امتلاك ثلاث سمات مشتركة عادة، وهي: البحث عن الأحاسيس ومستوى عدوانية فوق المتوسط وأنهم ذكور. بالنسبة لآخر سمتين، فيجدر التوضيح بأنه قد يسعى الأشخاص العدوانيون إلى مشاهدة أفلام الرعب، ولكن هذا لا يشير إلى وجود علاقة سببية في أي من الاتجاهين. وأيضًا، ومثل العديد من هذه الصفات فإنه هؤلاء البشر يعرفون لاوعيًا عن عدوانيتهم. أما بالنسبة للانقسام المفترض بين الجنسين: فهناك بعض الشكوك بأن عددًا كبيرًا من الرجال يقولون إنهم يحبون أفلام الرعب على الرغم من عدم حبهم لها حقيقة.
فرضيات أخرى
فرضية الثقة: حسب مارغي كير، فإن المرور بتجربة مخيفة يجعلنا فخورين بما أنجزنا، ونفسيًا، عندما تمر في تجربة مخيفة، ولكنها في نفس الوقت آمنة، يجعلنا هذا نشعر بالثقة والكفاءة والإنجاز والنجاح. تعزز هذه الأفلام الأنا عند المشاهد.
فرضية الإدمان: اندفاع الكيميائيات والهرمونات في أدمغتنا يجعلنا نشعر بشعور جيد حيال أنفسنا (حالة انتشاء)، وهو ما يدفعنا للعودة لمشاهدة المزيد من هذه الأفلام في محاولة للوصل إلى تلك الدرجة من الانتشاء. ويقول ماير زالد: “إذا كانت خاتمة الفيلم هي النجاة من الخطر أو مصحوبة بالتشويق (على سبيل المثال، الشعور عند إنجاز شيء ما على الرغم من الخطر)، فقد يؤدي هذا إلى ما يسمى بإفراط الأدرينالين، والذي يتميز بأنه إيجابي ولكن قد يكون له صفة إدمانية في الوقت نفسه، وعليهِ، فإن هذا سيقود الناس لمحاولة الوصول إلى درجة اندفاع الأدرينالين نفسها مُجددًا”.
فرضية الذكورة: حيث تعتبر مشاهدة مثل هذه الأفلام تثبيتاً للأدوار التقليدية التي يلعبها الجنسان في الحياة العملية، فحيث تكون المرأة خائفة، فهي تسعى إلى قوة وشجاعة الرجل (الذكر)، ولهذا وجدت عدة أبحاث أن الفتيات المراهقات يستمتعن أكثر في مشاهدة مثل هذه الأفلام عندما يكن مع شركائهن من الذكور.
خروجًا عن المألوف:
يتجه الكثير لمشاهدة أفلام الرعب لأنها مثيرة وخارج منطقة الراحة، ويقول سباركس بأننا مبرمجون بيولوجيًا لملاحظة الأشياء غير العادية وغير المألوفة في بيئتنا. وبما أن الشعور بالرعب والخطر يكسر الروتين فإن الفضول حول التغيير مهم جدًا في معركة بقائنا على كوكب الأرض، ولهذا نشهد ازدياد مشاهدة مثل هذه الأفلام في فترات الكساد وازدياد البطالة، حيث يسعى الناس إلى كسر روتين حياتهم وتفريغ جزء من غضبهم وحنقهم برؤية مشاهد التعذيب والقتل، تحدث هذه المَشاهد تأثيرات على المشاعر وتحفزها عند الأناس الذي تكون مشاعرهم قد بدأت بالتنمل والتبلد حيال كل شيء.
خاتمة
قد تكون هناك الكثير من الفرضيات والنظريات التي تفسر ميل الكثير من الناس لمشاهدة أفلام الرعب، فرضية التطهير حسب أرسطو ونظريته التطهير العاطفي عبر المسرح Catharsis حيث تتم عليمة تنقية لنفوس المشاهدين بإثارة خوفهم مما يحدث للبطل وتحريك كوامن شفقتهم ورحمتهم وهي فكرة ترجع أصولها إلى معالجة الداء بالداء فيعالج الداء الحقيقي الواقعي عن طريق إثارة شبيهة المتخيل غير الواقعي إثارة فنية قائمة على حشد المشاعر وتوجيهها بغاية تطهير النفس من أدرانها، ولكن كل هذه الفرضيات تغوص في علم نفس الإنسان والذي لا توجد بهِ أي إجابة حتمية أو فرضية نهائية، بل ويمكن أن تجد الكثير من العيوب في كل فرضية أعلاه، ولهذا قلنا بأن هذه الفرضيات مُجمع عليها، وهو لا يعني إجماعاً كلياً، وإنما إجماع بعض كبار علماء النفس. ستبقى أفلام الرعب أحد أفرع صناعة الترفيه والسينما وسيستمر الناس بمشاهدتها لأسباب كثيرة، ويبقى الإنسان كما هو لغزًا يستحيل تفكيكه وفهمه فهمًا قاطعًا.
العربي الجديد