-1- هاتفني أمس، صديقٌ عزيزٌ ، قال إنه أصبح يتشاءم من التصريحات التي يُدلي بها السيد عبد الرحيم حمدي وزير المالية السابق، التي يُحدِّد من خلالها ما سيصل إليه الدولار مقابل الجنيه.
قال لي الصديق: حينما ذكر حمدي قبل فترة أن الدولار سيصل إلى الخمسين جنيهاً، مهَّدَ بذلك التصريح الطريق لتجار السوق الأسود، بأن يصعدوا بسعر الدولار إلى الرقم الذي ذكره !
صديقي قال إن حمدي تحدَّث أمس الأول، وقال إن الدولار سيصل إلى شارع الستين، وربما وصل (شارع الهوا)!
-2-
فكرة الرَّجل أن خروج هذه الإفادات من شخصٍ في مقام وتجربة عبد الرحيم حمدي، ومعرفته بمُجريات الأوضاع الاقتصادية المُعلن منها والمخفي، لا تُعتبر توقعاتٍ محضة، بل هي حقائق في طريقها للتحقُّق على أرض الواقع.
لم أستمع أو أقرأ تصريحاً لحمدي، يُشير إلى احتمال وصول الدولار إلى (شارع الهوا).
أذكر أنني كتبتُ مُعلِّقاً على توقُّع حمدي السابق بوصول الدولار إلى خمسين جنيهاً، وذكرتُ وقتذاك ذات الحُجَّة التي أوردها صديقي أمس.
من حقِّ السيد الجليل عبد الرحيم حمدي أن يتوقَّع ما يشاء، وفقاً لمعلوماته وتحليلاته؛ لكن ربما تحديد رقم بعينه يُسهم ضمن عوامل أُخرى، في حدوث الأسوأ.
في هذا الظرف الذي نحن فيه من أوضاع اقتصادية مُضطَّربة، وتشويش ترتَّب على سياسات اقتصادية سابقة، أثبتت فشلها وعدم جدواها، بل عقَّدت أوضاعنا أكثر مما هي عليه؛ في مثل هذا الظرف، لن يُصبح المُحدِّدُ الأساسيُّ لسعر الصرف هو قانون العرض والطلب. التصريحات والشائعات لها دورٌ مُقدَّرٌ في ذلك، والتصريحات حينما تُنسب لشخصٍ مثل حمدي، يكون وقعها أمضى وأثرها أبلغ .
-3-
ليس أمامنا جميعاً من خيارٍ سوى الوقوف مع السياسات الاقتصادية الجديدة، ليس بالتصفيق والتهليل، ولكن بدعمها بالآراء البنَّاءة والمُلاحظات النيِّرة والنقد الإيجابي، الذي يُضيف ولا يخصم، ويبني ولا يهدم. جميعنا في مركب واحد شعب وحكومة .
السياسات الأخيرة اعتبرها أحد الخبراء الاقتصاديين المُقيمين خارج السودان، بأنها أخطرُ من إعلان الحرب.
مُترتِّبات مثل هذه القرارات، لن يُصيب ضررُها جهةً دون أُخرى، ولا نفعها مجموعة بعينها.
نجاح السياسات أو فشلها يمسُّنا جميعاً؛ فالأفضل أن نتعاون على إنجاحها بدلاً عن أن نتلاوم غداً على فشلها.
-4-
لاحظ كثيرون غيري، أن فارق التوقيت بين إعلان السياسات وتوفير السيولة بالبنوك والصرافات، لمُقابلة شراء العُملات من المواطنين، شكَّلَ انطباعاً سيئاً ووفَّر مادة للسُّخرية والتَّشكيك.
كان الأَوْلى أن تُعلَن السياسات النقدية وتحديد يوم تنفيذها، بعد توفُّر السيولة بالبنوك، فالتأخير ليوم له انعكاس سالب في تشكيل انطباع عام، كان يسهل تجنبه.
من خلال حديثي مع عددٍ مُقدَّرٍ من المُصدِّرين، وجدتهم مُتفائلين بالسياسات، ويرون فيها دعماً للإنتاج، لكنَّهم مُجمعون على أن عدم توفر السيولة في أسرع وقت في مناطق الإنتاج ستترتَّب عليه أضرارٌ بالغة وخسائر فادحة.
-5-
بكُلِّ تأكيد، عوائد المغتربين ستأخذ وقتاً أطول، حتى تمضي في مسار القنوات المصرفية، بعيداً عن أزقَّة السوق الأسود.
أغلب المُغتربين لا يثقون في السياسات الاقتصادية الحكومية، ويرونها تنتقل من النقيض إلى النقيض، كما أن الدولة التي تضمُّ أكبر عددٍ من المغتربين السودانيين، وهي المملكة العربية السعودية، ليست لها تعاملاتٌ مصرفيةٌ مع السودان، إلا عبر صرافة واحدة في القنصلية!!
العملية مُتكاملة ومُترابطة: والفرص الكبيرة تهرب عبر الأخطاء الصغيرة طُوبة واحدة تُسقِطُ البناء، وثغرةٌ صغيرةٌ تفتح الباب للفشل، والخطوة الصحيحة حينما تأتي في الزمن الخطأ لا تُحقِّقُ سوى الحسرة والندم.
-6-
المعركة مع تُجَّار السوق الأسود، لن تكون سهلة ويسيرة، بل ستكون صعبة ومريرة، كر وفر. هذا السوق أصبحت له قوة ضاربة وتكتيكات ماكرة، وأيادٍ طويلة ووسائلُ فاعلةٌ وحيوية في تحقيق الوجود وتوفير الحماية .
مُواجهته لم تنجح حينما كان الخيار أمنياً، مع قليل من التدابير الاقتصادية البائسة.
الآن أصبح الظرف مُواتياً للمُزامنة بين الإجراءات النقدية والعقوبات الردعية الحاسمة، التي تجعل من تجارة الدولار مُجازفةً غير مأمونة العواقب، وليست نزهة آمنة ورابحة، حتى تنجح السيطرة على الدولار وتُعاد العافية إلى الجنيه المسكين.
ضياء الدين بلال
صحيفة السوداني.