مأساة تتقطع لها نياط القلوب، تُدمي القلب، وتذرف الدموع ، تجعلك تتساءل في دهشة وحيرة هل هناك من هم على كراسي
دواويننا الحكومية نزع الله منهم الرحمة، وأصبحوا مسخرين لعذابات الناس !
ألم يرضعوا من حنان ثدي الأمهات
ألم يتربوا في كنف حبوباتنا الحُنان
ألم تعرف قلوبهم أن ترق لبراءة الأطفال، الذين يتوسلوننا في ضعف، ويستنجدوا بنا في عجز، وعينيهما تلمعان !
الطفل الغرير “مُنعم بابكر محي الدين مكي” الذي ينحدر من قرية “الكرد” الوادعة شمالي السودان، طفل زغب الحواصل، لا يتجاوز العاشرة من عمره، لم تتفتح عيناه على الحياة بعد، أصيب بمرض اليرقان الذي تمكن في جسده، وسرق بريق إبتسامته، بلهفة وشفقة أخذه والديه للعلاج بمصر، بحسب مانقل: أبومهند العيسابي محرر “كوش نيوز”.
وهناك كانت فاجعتهم المؤلمة أن اليرقان، قد إستوطن في جسده الغض، وتمدد في أحشائه، مما أثر على الكبد، الأمر الذي يستدعي إجراء عملية عاجلة، لكبد الصغير “المتليف”، وبدأت إجراءات الفحوصات ورحلة المعاناة الطويلة القاسية، بعد أن وجدوا ان والده مطابقاً معه تماماً، تطوع الأب بكبده لفلذة كبده، دون أن يطرف له جفن، ولكن …
رفض المستشفى إجراء العملية بحجة أن هناك قرار رئاسي من الخرطوم يمنع اجراء عمليات نقل الاعضاء من مواطنين سودانيين إلا بموافقة من رئاسة الجمهورية، ومنذ ذلك الوقت ظل أهله يهرولون ما بين السفارة والخرطوم والقمسيون والرئاسة، وللأسف لا حياة لمن تنادي، ولا إحساس بمعاناة طفل يمكن أن يفقده أهله في أي لحظة، بسبب بروقراطية “مقيتة”، وقد أخطر الأطباء والديه، بأن أي يوم يمر ليس في صالحه إذ سيتفاغم المرض، إن لم تجر له العملية ويمكن أن يدخل في حالة غيبوبة ويفارق الحياة.
أحضر أهله بعد جهد جهيد خطاباً من القمسيون الطبي بالخرطوم، ولكن لم يلق حتى هو الآخر موافقة المستشفى المُعالِج، بحجة أن الخطاب “صورة “وهم في حاجة إلى الاصل !
طار والده عائداً إلى السودان لمقابلة رئاسة الجمهورية دون جدوى، وحالة “منعم” في كل يومٍ تزداد سوءً، ومصروفات المستشفى والسكن والاعاشة تزداد عليهم يوماً بعد يوم، وتثقل كاهل الأسرة، حتى فاق صرفهم خلال شهر واحد 200 ألف جنيه مصري، معظمها للفحوصات والمستشفى، وبرغم ذلك يقولون في يقين كلها تهون في سبيل إنقاذ حياة الابن، علاوة على تكاليف العملية التي تبلغ 45 ألف دولاراً.
في حين أن الأسرة عندما سافرت به الى مصر لم يكن يعلموا ان هناك قراراً رئاسياً بمنع العمليات، كما لم يكن يعلموا بأن الطفل يحتاج أصلاً الى نقل كبد !
ولكن شاءت الأقدار أن يجد الاطباء ان الطفل قد وصل مرحلة تليف الكبد ويحتاج الى عملية نقل عاجلة.
احضروا الخطاب الأصل من القمسيون، ليصطدموا بفاجعة أخرى، إذ رفضت سفارة السودان بالقاهرة، من التوقيع بالإعتماد، إلا عن طريق ” واسطات” ، ليتم التوقيع مساء أول أمس “الأربعاء”بحسب مانقل محرر “كوش نيوز”.
ولكن الفاجعة الكبرى كانت بعد فوات الأوان فقد كان الطفل “مُنعم”، قد أغمض عيناه البريئين بعد أن أعياها الرهق وهي تتوسل ليلحقوا به، فدخل في حالة غيبوبة تامة، غاب فيها وعيه عما حوله، احتمال خروجه منها 10% فقط ، وهذا ما كان قد حذر منه الأطباء إسرته المغلوبة على أمرها، بأن تسرع الإجراءات لاجراء العملية خشية حدوث مضاعفات.
ولكن هذا ما حدث بفعل الإجراءات البروقراطية القاتلة التي يتعامل بها هؤلاء المسؤولون عن أرواح ا لناس.
أمه تبكي ليل نهار وهي تنظر الى طفلها يتسرب من بين أيديها ، بسبب قرار لم يراع مثل هذه الإستثناءات من الحالات!
تقول “أم منعم” وهي دامعة وغصة تعتري حلقها مع نحيب لاينقطع، عندما اخذوا ابني من أمامي بالنقالة إلى العناية المكثفة اعتبرتها هي جنازته والوداع الأخير.
أسئلة صادمة ومحيرة تفرض نفسها، لماذا لا تتعامل السفارة مع مثل هذه الحالات بإنسانية وإستثناء وتتماشى بروح القانون، إذا كان الأب هو من تبرع لطفله، ومعه كل المستندات التي تثبت، و ليس فيها ما يخالف الشرع ولا القانون، فلماذا هذا التعنت أصلاً، حتى تضيع بسببه أرواح الأبرياء.
ولماذا جاءت السفارة لتختم “بعد فوات الأوان”، اذا كان بإمكانها ان تختمه فلماذا لم تختم من الأول، أم كانت تنتظر “الواسطات” .
لازال الصغير “مُنعم” في ركنٍ قصي في غرفة الإنعاش، ينتظره والديه بأعين باكية، ويطوي آلامه بين أضلعه اليافعة، وقد إنهد حيله، ونحل جسمه، وفقد وعيه، ينتظر رحمة أهل السماء، بعد أن غابت عن أهل الأرض، والله المستعان.
أبومهند العيسابي
الخرطوم (كوش نيوز)