لعل أروع ما قدمته عائلة “مليجي” لتطوير الموسيقى السودانية، يتمثل في مزجها للموسيقى الحديثة بالإيقاعات التقليدية، كونها أساس الموسيقى والتطريب قبل ظهور الأورغن، واستلهمت الأسرة ذلك الإبداع الفطري من رب الأسرة، الذي كان أول عازف سوداني في فرقة موسيقى البوليس الإنجليزي إبان الاستعمار، بالإضافة إلى الملهمة الوالدة، العازفة الماهرة على (فندك) الخشب أثناء إعدادها للبهارات بالمنزل، حيث كانت تصدر إيقاعات تتسلل إلى وجدان أبنائها الصغار الثمانية المتحلقين حولها، ليتحولوا فيما بعد إلى أشهر عازفي الإيقاعات في السودان “فائز، حاتم، شريف، عصام، نميري، جمال، فادي وسامر”.
ويحكي “حاتم مليجي” عن مسيرة الأسرة الفنية قائلاً: إن الوالد كان يعمل مراسلاً لدى الإنجليز حينما كانت (ود مدني) عاصمة للبلاد، وفي بداياته عزف (الهورن) و(الطرمبون) في المارش، ولاحظ الإنجليز أناقته واهتمامه بنفسه، فتم اختياره للعزف في الفرقة المصرية، التي قامت بالعزف في الاحتفال بافتتاح (مشروع الجزيرة)، كما عزف لعدد من الراقصات اللواتي، كن يزرن السودان في رحلات فنية، ومن ثم ابتعث إلى (القاهرة) للتدريب على عزف (الكمان) ليصبح أول من تعلم العزف على الوتريات، وعند عودته شرع في افتتاح فصل لتدريس الموسيقى ب(ود مدني)، حيث درَّس العازفين (الصولفيج) ويعتبر في ذلك الوقت مرجعاً، ويواصل “حاتم” حديثه قائلاً: حالياً يعمل والدي أستاذاً للموسيقى بـ(مدرسة ود مدني الثانوية)، ووقف مع عدد من الفنانين في بداياتهم ليأتي من بعدها تكوين الفرق والجماعات بداية من (فرقة البوليس) و(فرقة الجاز) و(الفرقة الماسية) التي أحدثت نقلة في الموسيقى، والدي كان رئيس اتحاد فناني الإقليم الأوسط.
وعن بداياته الفنية يقول: الوالد وضع لنا سبورتين بالمنزل لتعلم الصولات الموسيقية، سبورة للأولاد الكبار، وأخرى للصغار، وأصبح منزلنا مدرسة موسيقى، ورغم ذلك الجيران لم يتضجروا منا ومن أصوات الموسيقى التي تصدر أثناء التدريبات، بل كانوا يأتون ليستمعوا، وكان الوالد حازماً معنا في تعلم العزف، حيث يشدنا من آذاننا ويضربنا بالسوط لتعلم الإيقاع، وأنا ظهرت من خلال الدورة المدرسية في العزف المنفرد (1984م) في (مدني).
وأيضاً شجع إخوتي على إتقان العزف على الإيقاعات ظهور شقيقنا الأكبر “فائز” في (تلفزيون ولاية الجزيرة) ضمن الأوركسترا الغنائية، وكنا نأتي لنتفرج عليه، والطريف في الأمر أن أياً من إخوتي لم يدرب الآخر على العزف الإيقاعي، ولم نعزف سوياً إلا ونحن أساتذة كبار.
(دقة الفندك) لوالدتي وهي تغني أثناء إعدادها للبهارات ألهمتني فن إتقان العزف، فكانت بدقها على (الفندك) تنتج أصواتاً موسيقية جميلة وراقصة (تم تم تم، تاك تاك تاك، تك تك تك..!!)، لقد كانت موسيقى الوالدة من (الفندك) توحي بأنها فنانة وعازفة ماهرة سبقتنا في المجال، لكن بطريقتها الخاصة، أخذنا منها إحساساً بتذوق الموسيقى، وأيضاً شقيقتي “عبلة مليجي”، عازفة مميزة على (الدلوكة) وتستخدم يدها اليسرى وتخبطها خبطاً شديداً، ولا أنسى “سيدة مليجي” بدأت العزف على (الكمان) وتخلت عنه لظروف خاصة.
ويكشف “حاتم مليجي” أن اسم “مليجي” مجرد لقب لوالدهم (محمد قسم المنقاش إدريس)، ولقب بذلك لتقليده للممثل المصري “محمود المليجي”، وتحول فيما بعد إلى اسم فني عرفت به العائلة.
نحن ثمانية أشقاء أكبرنا “فائز” هاجر إلى (الولايات المتحدة) وهو من علمنا السحر وعزف على (البنقز) في أوركسترا “حمد الريح” و”محمد وردي”، ولكي يميز نفسه اشتهر بوضع عُملة (الشلن) بين أصابعه أثناء العزف، و”أسامة مليجي” العازف الأول لـ(فرقة عقد الجلاد)، وهو أول من أدخل آلة (الترماس الإلكتروني) في السودان، اتجه مؤخراً إلى الغناء والتلحين، ويستعد لإصدار ألبومه الأول قريباً.
هنالك “شريف مليجي” هو من طلائع مدني وعزفه وعمله قوي وممي
ز، شارك في برنامج (أغاني وأغاني) ضمن الفرقة الموسيقية، “جمال مليجي” عازف (طبلة) و(بنقز) يعمل في فرقة (القصر الجمهوري)، و”نميري مليجي” مرة يظهر ومرة يختفي، عمل فترة طويلة مع الفنان الراحل “محمود عبد العزيز”، وفرق (البعد الخامس) و(النورس)، وأيضاً لاعب كرة قدم ويمتهن (الخراطة)، وحالياً يعمل مع “ندى القلعة”، أما “سامر المليجي” رغم أنه عازف (جيتار) جيد لكنه يفتقد للانضباط وطول البال.
“فادي مليجي” يعشق كرة القدم والسباحة والغناء ويعزف في فرقتنا، ونحن نتمنى له أن يسير على درب الأسرة، و”عصام مليجي” عمل مع “أبو عركي”، وهو عازف ممتاز ومحبوب، وقدم الكثير في الموسيقى.
لقد كان أولاد “مليجي” حريصين على تطوير الفن السوداني، فأسسوا في بداياتهم بـ(ود مدني) فرقة إيقاعية (مليجي إخوان)، أنتجت أعمالاً خاصة، وأدخلت آلات جديدة كـ(الساكسفون) و(الدرامز)، أطلقنا عليها (مليجي بيت) وأصدرنا مقطوعة موسيقية وشريط كاسيت بالتعاون مع شركة (سودانيز ساوند).
وبدا “حاتم” معتزاً بالإيقاعات الأفريقية التي قال إنها جاءت من أفريقيا إلى السودان، وكانت سريعة جداً في الجنوب وفي وسط السودان كانت أبطأ، ويضيف: نحن بلد غنية بالإيقاعات اتساقاً مع ثقافاتنا المتعددة، ولو اتجهنا بها إلى أفريقيا لوجدت رواجاً أكثر.
ويقول “حاتم”: شهرتنا لم تأتِ إلا بتميزنا، ونحن لم نكن الأفضل، لكن العزف على الإيقاعات أصبح مهنتنا، ويجري في دمنا، ولا بد أن نكون مخلصين للمهنة.
ويرى “حاتم” أن الوسط الفني أصبح غير متماسك والعلاقات سيئة، وأضاف: نحن كعازفين غير متحدين، فلو كنا متحدين لتطور الفن وقُيمت مكانة العازف، ويقول: عن نفسي الحمد لله حققت ما يرضيني وهذا ما ألتمسه في تعامل الجمهور معي في الحفلات الناس بتسلم عليّ أكثر من الفنان.
ورغم مساعي أولاد “مليجي” لتطوير الأغنية السودانية بدعمها بموسيقى الأساس الإيقاعية، إلا أن “حاتم” يرى أنها لم تأخذ العالمية بعد لوجود أسباب عدة من بينها توقف المشاركات الخارجية للسودان منذ فترة، وحينما توجد هذه المشاركات نجد موظفي المراسم المرافقين أكثر من الفرقة الموسيقية.
صحيفة المجهر السياسي