-1- زارتني في المكتب، فتاةٌ سودانيةٌ تجمع بين الملاحة والبساطة، يكسو ملامحها الحزن والأسى.
جلسَتْ على المقعد.. كانت تُحاول استجماع الكلمات، لتَحكي تفاصيل ما حدث.
وهي في محاولتها تلك، انفجرت بالبكاء. حاولتُ تهدئتها. قدَّمتُ إليها قارورة مياه ومناديل ورق حتى تُجفِّف دموعها، وتُبلِّل جوفها لينطلق صوتها.
بدأت في حكاية قصَّة احتيالٍ غريبة ومُدهشة يصعب تصديقها في أوَّل الأمر، لولا الأوراق والمستندات وشهود العيان.
-2-
الاحتيال لم يتم عليها في السوق العربي، أو سوق السجانة، أو سوق ستة بالحاج يوسف، أو أيِّ مكانٍ آخر مُشابه.
الاحتيال تمَّ لها، وهي تتعامل مع شركة وسيطة ومُعتمَدة من سوق الأوراق المالية.
المُشكلة ومصدر الغرابة، ليس فقط في عملية الاحتيال (عمليات الاحتيال على قفا من يشيل)؛ ولكن في الطريقة التي تمَّت بها، وتعامل سوق الأوراق المالية مع تلك (الحالة).
-3-
سناء الفتاة السودانية، معدومة الظَّهر والسَّند والوجيع، تحكي ما بين الكلمات والدُّموع والعبرات والشعور بالظلم والاستضعاف، حكايتها التي لا تحدث إلا في مسارح العبث والفوضى:
أنا خرِّيجة مُحاسبة. عملتُ في عددٍ من الشركات الأجنبية بمُرتَّبات مُجزية جدَّاً، وتجمَّعت لي مبالغ من المال، حصائد ادِّخاري من المُرتَّب وحقوق ما بعد الخدمة، إضافة إلى مبالغ جاءتني من خالاتي خارج السودان.
تُواصل سناء: فكَّرتُ في استثمار المبلغ الذي بلغ 4 ملايين (مليارات بالقديم)، في سوق الأوراق المالية، عبر شركة وسيطة، تُمثِّل مصدر دخل لي ولأُسرتي المحدودة العدد.
كنتُ في البداية أتعامل مع شركة المهاجر. أقنعتني (نازك) وهي من المتعاملات مع السوق، بنقل المبلغ إلى شركة وسيطة أُخرى، وهي شركة (قنوسر) للاستثمار المالي.
-4-
تُواصل سناء: ذهبت إلى الشركة مع (نازك)، وأكملت إجراءات الإيداع في حساب الشركة، التي لها مكتبٌ في أسواق الأوراق المالية (أطلعتني سناء على إشعار الإيداع).
قالت سناء إنها ظلَّت لعدَّة أشهر عبر حسابها في البنك، تتلقَّى أرباحاً من الشركة.
وحينما انقطعت الأرباح، ذهبتُ في مارس الماضي إلى الشركة للاستفسار؛ فهي تعتمد على المبلغ كمصدر دخل وحيد لأُسرتها.
في تلك الزيارة، كانت المُفاجأة الفاجعة والصدمة الداوية لسناء.
-5-
سُميَّة مديرة الشركة، قالت لها بكُلِّ بساطة وبرود مُثلّج وعدم اكتراث: (جات نازك وأخدت قروشك، قالت جدِّك مريض، وانتي مُحتاجة للمبلغ عشان مسافرين ألمانيا)!
سناء أُصيبت بالصدمة والذهول: كيف للشركة تسليم نازك أو غيرها أموال شخص آخر، دون توكيل أو إجراءات قانونية ومُحاسبية؟ على أيِّ أساسٍ تمَّ تسليم المبلغ لنازك؟
المُهم، مسؤولة الشركة لا تمتلك إجابة لأسئلة سناء المتسارعة، غير أنها وثقت في نازك، لذا قامت بصرف المبلغ لها!!
الثقة وحدها تكفي لصرف 4 مليارات دون توكيل أو إخطار ولو شفاهي!
-6-
المُريب أكثر أن نازك استلمت المبلغ عبر أربعة شيكات من الشركة من بند (الثقة) فقط!
منذ ذلك الوقت، ظلَّت سناء تلهث في سبيل استعادة حصاد عملها، ومصدر معيشتها، وثقة خالاتها!
طرقت سناء كُلَّ الأبواب، فقُوبلت بالتَّجاهل أو عدم الاهتمام.
أخرجت سناء من حقيبتها السوداء خواتم ذهب، وقالت إنها الآن تعيش على بيع ما تملك من ذهب قليل!
-7-
لجأت سناء إلى مُؤسَّسات العدالة، الإجراءات سلحفائية بطيئة، لا تبرئ جرحها أو تُجفِّف دموعها؛ فمع الزمن تموت القضايا بالنسيان وانقطاع الأمل!
هل تصدقون؟..
الشركة لا تزال تعمل في سوق الأوراق المالية (الضامن الأوَّل لحقوق المتعاملين)!
وسنكتشف مع البحث والسؤال، ومن أرشيف الصحف، أن (سناء) ليست وحدها من لُدِغَ من هذا الجحر السام، المحروس بأوراق رسمية!
ونازك لا تزال مُطلَقةَ السراح بضمان عمِّها رجل القانون، والإجراءات متوقفة منذ فتح البلاغ إلى اليوم!
ومدير الشركة الموجود في مكتب السجل التجاري (مزمل) صاحب الاسم والعنوان، يُخفي نفسه من أجهزة العدالة!
وإدارة سوق الأوراق المالية تلتزم الحياد السالب، وتلتمس الجودية الكسولة!
والدليل على ذلك، عندما سُئل السيد مجدي محمد الحسن مساعد مدير سوق الأوراق المالية عن أنشطة (نازك) الاحتيالية، أجاب من على مقعده الوثير بكُلِّ بساطة وبرود: (تم الاتصال بنازك وحضرت إلى السوق بمعية شقيقها، وأقرَّت بأنها استلمت أختاماً ومُستندات دون علم القائمين على أمر شركتها السابقة، والتزمت بسداد المبلغ لأصحابه خلال فترة معقولة)!
-أخيراً-
قال: (فترة معقولة)!
أين العقل في كُلِّ هذا؟ بل أين الضمير وحس المسؤولية في جهة أهم مصدر لرأس مالها الثقة وحساسية السمعة؟!!
وغداً سنُخبركم أن سناء ليست الضحية الوحيدة لنازك وغيرها من المحتالين، في العالم الأنيق بالأقمصة البيضاء والكرفتات المُورَّدة!
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
نواصل
ضياء الدين بلال