بقلم / نقيب (م): علي المفضل الخليفة عبد الله
إذا جاء العدو لأي أرض
وضاقت من وقاحته السهول
وشد بالخناق على رجال
وليد بنانهم شبل أصيل
فلا تحزن إذا ماتوا كراماً
وبو العز يحيه القتال
كلمات صاغها أحد قادتنا الشعراء الأدباء هو العميد (الراحل) عوض مالك.
في صبيحة الجمعة 2 سبتمبر 1898م شن جند الله أبناء قواتنا المسلحة الباسلة هجوماً عاجلاً مدبراً على مواقع العدو الدفاعية المتمركزة في قرية العجيجة شمال أم درمان بقيادة رأس الدولة، حيث خاضوا حرباً ضروساً ضد قوى الصليبية والصهيونية التي جاءت بكامل عدتها وعتاده من الأسلحة النارية الفتاكة المحرمة دولياً في زمانها، حيث وقعت المواجهة في سهل كرري الواسع المنبسط في شمال مدينة أم درمان.
لذا إن جاز لنا أن نستعرض الموقف العسكري لهذه المعركة الفاصلة التي كانت بمثابة حرب تحرير، وفي نفس الوقت بداية لنهاية ثورة أضاءة وجه السودان المشرق مثَّل فيها أبناء السودان أروع النذر الوطني، حيث ضربوا البيان بالعمل في التضحية والفداء، لذا حُق لنا في هذه المرحلة أن نمنحهم بطاقة المجاهد لأنهم عرفوا معنى ومفهوم التضحية في سبيل العقيدة والوطن، ولمن يضحوا.
لذا فنحن عندما نستعرض حرباً من جملة حروب الثورة المهدية المتعددة التي كانت بمثابة حروب استنزاف على المستويين الداخلي والخارجي زهاء الـ 14 سنة، استغرقتها فترة الخلفة عبد الله بالرغم من اختلاف ظروفها، إلا أننا نجدها متفقة في سمتين.
أولاً: منذ بداية الثورة في فترة الإمام المهدي لم يكن السودان بادياً لأي عدوان او مواجهات إلا بعد أن أرسلت له حكومة الخرطوم التركية التي بسطت نفوذها على السودان حملة لاعتقاله وإحضاره بالقوة الى الخرطوم، فحدثت معركة الجزيرة أبا في 12/8/1881م الذي يوافق 17 رمضان 1298هـ
ثانياً: كانت حروب المهدية كلها عادلة لأنها كانت تهدف الى طرد الإنجليز والأتراك من الأراضي السودانية، وإقامة شرع الله كدستور إسلامي للسودان لذا فالخليفة عبد الله لم يكن قائداً رومانسياً، بل كان قائداً واقعياً عرف من خلال صعوده الى السلطة الى خطورة أوضاع السودان بصفة خاصة والبلاد الإسلامية بصفة عامة انطلاقاً من إستراتيجية الثورة المهدية، لذا كان أمامه في معركة كرري خياران لا ثالث لهما، إما الاستسلام عندما طلب منه كتشنر التفاوض بجانب العرض الذي قدمته فرنسا عندما أرسلت مندوبها لأم درمان لرفع العلم الفرنسي في السبلوقة حتى يكون السودان تحت الحماية الفرنسية.
إما الخيار الثاني هو النضال والمقاومة. فكان خياره الثاني بلا تردد لأنه كان يناضل في نطاق إستراتيجية تتعدد مزاياه فيها إنهاك العدو على المدى الطويل كما حدث لجيش هكس في شيكان، عقد مجلس الحرب (مجلس الشورى) في أم درمان ونوقشت خطة الهجوم الليلي على أن تقوم قوات الملازمين بقيادة الأمير شيخ الدين بالهجوم على قوات العدو في قرية النوفلاب حيث كانت تمثل نقطة الشؤون الإدارية لقوات العدو، وكشفت الخطة للجنرال ونجت بواسطة أحد العملاء المندسين أثناء اجتماع مجلس الحرب، وخطط أخرى كانت ترسل لاستخبارات العدو بواسطة الجواسيس، بذل الخليفة عبد الله أقصى الجهود لتلافيها تحقيقاً للآتي:
1/ إعادة الخطة الهجومية وتقدير الموقف بصفة مستمرة.
2/ تقوية الجبهة الداخلية وتطهيرها من العملاء والجواسيس
3/ التمام المستمر على المجاهدين بواسطة الأمراء قادة القطاعات والتأكد من إمدادهم بالسلاح.
إذن.. المفهوم القيادي السليم في أرض المعركة وفي أحرج اللحظات، أدى الى أن تفهم نوايا العدو تماماً وبوعي كامل من أساليب إدارة الصراع بين العدو وعملاء الطابور الخامس داخل قواته.
قال الشاعر إبراهيم البيتي (رحمه الله) في ديوانه في قصيدة بعنوان (بطل معركة كرري)، حيث يقول بالنسبة للعدو:
وسلاحه كان قبل سلاحه.. عمل الخيانة وانتشار الداء
قد كان للأعداء بين صفوفنا.. سند تنظمه يد الجبناء
لذا كان ذلك بمثابة مفاجأة لجيش المجاهدين حيث تأزم الموقف بعض الشيء، فصار ملتهباً داخل صفوف القيادة بالرغم من ذلك لم تفقد القيادة وجيشها الروح المعنوية، لذا قال الخليفة عبد الله للقادة قولته المشهورة: (يا أنصار الدين النصر أو الشهادة). إذن.. كان هنالك حشد كبير من قوات المجاهدين في ميدان المعركة في جو سياسي ملتهب، فما أقسى مهمة القائد لذا كان وكقاعدة عسكرية لمواجهة الموقف لابد من الاستعداد للمواجهة بنسبة 100% حتى لو لم يتم هذا الأمر جعل خطة الخليفة عبد الله الهجومية في ميدان المعركة للسرية، حيث أشاد بها ونستون تشرشل في مذكراته التي قال عنها (الخطة التي وضعها الخليفة عبد الله في ميدان المعركة خطة عبقرية ومرنة ومعقدة لما لها من مواجهة كافة الاحتمالات اذا غضضنا الطرف عن الأخطاء البديهية التي وقع فيها وهي جهله بالعدو بينما كان العدو يعرف الكثير عن جيش الخليفة بواسطة عملائنا…الخ ما ذكره تشرشل.
إذن.. أستطيع القول، إن الترتيبات التي وصفها الخليفة عبد الله في خطته الهجومية في أرض المعركة في كرري، التي تعتبر قيادة مسرح عمليات هي من أدق العبقريات العسكرية التي يقوم بها قائد. لذا كان قبول المجاهدين بالمهمة الهجومية أصبحت مسؤولية قائد الجيش مسؤولية كاملة، فعندما حدثت الهزة كان سببها الرئيس هو عدم تعادل القوة اللا متكافئة في التسليح بين الجانبين. ولعمري إن هذه من جملة الأسباب التي أدت الى النكسة وليس جهل قواتنا بالخطة وإدارة القتال المتوقع، هذا من جانب. أما من جانب آخر، فهنالك نقاط ضعف ظهرت أثناء هجوم قواتنا ألخصها في الآتي:
1/ ضعف التأثير الكبير على قدرات عنصر المفاجأة على العدو بالتخطيط والمتابعة، لأن هذا كان يتطلب الدراسة والتخصص في العمليات العسكرية في الميدان، وهذا الأمر كان معدوماً تماماً لأن جيشنا في المهدية بالرغم من شجاعة مقاتليه وجرأتهم يفتقد الى عناصر ميدانية متخصصة وهذه كانت معدومة تماماً بينما كان جيش العدو ترافقه خبرات عسكرية مكونة من 7 دول أوروبية تخصصت في حرب الميدان.
2/ بالرغم من عدم الارتباك الذهني لقواتنا وزعزعة صفوفها، انتهج العدو أساليب غير متوقعة لقواتنا حيث كانت القوات الصديقة له من بعض الذين اندسوا في صفوفنا لزعزعة تلقي الأوامر أثناء الهجوم
3/ البطء الشديد في وصول المعلومات لأمراء القطاعات أثناء سير المعركة، خاصة أننا فقدنا عامل المواصلات اللاسلكية بالأجهزة، بجانب القصور التام في إرسال المعلومات الى قادة القيادات الأعلى.
4/ كان للعدو ظهور على أجناب قواتنا منذ وصوله الى أرض المعركة، لأنه درس الأرض قبل وصول قواتنا، الأمر الذي مكنه من وضع خططه الدفاعية بالنيران فحقق ذلك بسهولة على قواتنا
5/ ضعف معنوي بتطعيم المعركة لقواتنا المهاجمة بالنسبة للقصف المدفعي التمهيدي المكثف على مواقع العدو وزعزعة دفاعاته قبل بدء الهجوم، بجانب العمليات الجوية التي كانت أصلاً مفقودة وقتذاك. ولعمري إن هذه من جملة الأسباب التي أدت الى النكسة وليس جهل قواتنا بالخطة وإدارة القتال المتوقع كما يزعم البعض.
ويحدوني المجال هنا، أن ألخص وأقول عن هذه المعركة مطلوب في هذه المرحلة من الإخوة العسكريين المتخصصين في فن الحرب، إقامة موضوعية هادئة لا نريد من خلالها أن نرمي اللوم إلا على من خانوا القضية أثناء المعركة. ما لا نريد أن نسرع على أية تساؤلات بنفس الهدوء والموضوعية علينا مناقشته، يقيني لو أن هذه المعركة وضعت في إطار الأعمال الوطنية العظيمة من خلال بانوراما قدمها جيش السودان الذي قال عنهم ونستون تشرشل (كانوا أشجع من مشى على الأرض دمروا ولم يقهروا بقوة الآلة).
لتجلى لنا الكثير الذي يخرس أفواه الذين يسطرون آراهم اللامتزنة وطنياً عبر أجهزة الإعلام، خاصة المقروءة ولاستخلصنا الدروس والعبر حتى لا نهدف الى الهدم والتجريح، لكان ذلك أجدى وأنفع فأبناء الدول أصحاب التربية الوطنية السليمة، تعالج نكساتها بطرق موضوعية غرضها الاستفادة وليس التجريح والتفشي كلما مرت علينا مناسبة هذه المعركة معركة الشرف والكرامة -كما يحلو لي أن أسميها.
صحيفة الأنتباهة