لم يدر بخيال الممثل والمخرج المسرحي السوداني الرشيد أحمد عيسى، وهو يتخذ من إمارة الشارقة مكانًا للعمل وبذل مواهبه الفذة، أنه وفي غضون أعوام قليلة، سوف تتحول غربته إلى كابوس فظيع، ويكون جزاؤه الطرد النهائي لمجرد الاشتباه في محادثة عادية جرت بينه والممثل القطري غانم السليطي.
وفي سعيها تقريبًا إلى إحكام كل المداخل التي يمكن أن تعبر منها نسمات الحرية، تكتسب دولة الإمارات العربية المتحدة العداوة بإفراط. وهي من خلال سياستها الجديدة تجاه جارتها قطر، وبعض البلدان العربية تحصي أنفاس مواطنيها، وتنصب محاكم التفتيش داخل أراضيها، إلى الدرجة التي لم تتردد فيها إطلاقًا من إنهاء خدمات ممثل سوداني بصورة مسيئة للفن قبل كل شيء.
نشاط مسرحي هائل
في مطلع العام 2010، قُدمت الدعوة للمخرج والممثل السوداني الرشيد أحمد عيسى، لتقديم عرض مسرحى في ملتقى المسرح العربى بإمارة الشارقة. وكانت المسرحية المختارة هي “مأساة يرول” لينتقل العرض بعدها إلى أبوظبي. وفي نهايات العام نفسه، تم استقدامه للعمل بدائرة الثقافة والإعلام بإمارة الشارقة كمنشط مسرحي. جاء العام التالي ليبدأ الرشيد تأسيس مسرح الشارع، بورشة امتدت لأسبوعين، وكوّن بعدها فرقة المسرح العربي التي قدمت 20 عرضًا فى مدن وبلدات إمارة الشارقة. ولم يتوقف عطاء الرشيد هنا، وإنما أسس مهرجان المسرح الكشفي في العام 2011، وعمل فيه إلى نهاية الدورة السابعة، كما أسس مهرجان “كلباء للمسرحيات القصيرة”، وهو مهرجان معني بتكوين وإعداد المخرجين، علاوة على ذلك فقد عمل مديرًا فنيًا أيضًا لمهرجان “خورفكان المسرحي” لأربعة دورات.
من خلال هذه المبادرات النوعية، يتضح الدور الإبداعي الهائل الذي كان يقوم به الرشيد في الشارقة وعموم إمارات أبوظبي، إلى جانب أنه عمل مديرًا فنيًا لمهرجان المسرح الصحراوي، وأخرج عمل الافتتاح للدورة الأولى من إعداد الشيخ سلطان بن محمد القاسمي، أمير الشارقة، وهي مسرحيه “علياء وعصام”.
ونتيجة لذلك توطدت علاقته بأهل الفن عمومًا في الدولة التي سيغادرها مكرهًا بعد ذلك. فحاز على ثقة الأمراء وقادة العمل الثقافي، حتى أنه كان ناشطًا في كل لجان اختيار النصوص والعروض ولجان التحكيم في المهرجانات.
مأساة “يرول” السوداني
وإزاء مأساته في الإمارات، والتي لا تقل عن “مأساة يرول”، حكى الرشيد أحمد عيسى لـ”ألترا صوت” تفاصيل ما جرى له بالضبط، وقال إنه كان يعد العدة لافتتاح الدورة السادسة لمهرجان كلباء للمسرحيات القصيرة، إلا أنه وقبل يومين من الافتتاح، تم استدعاءه من قبل جوازات الشارقة، وعند مقابلته للضابط المسؤول، قال له: “أنت مُبعد من البلاد، عليك أن تغادر خلال اسبوع، والآن ستذهب للتوقيف حتى يأتى ضامن”. وعندما سأل الرشيد عن السبب، قيل له: “نحن جهة تنفيذية فقط”.
لتوه شعر الرشيد بأنه عالق في نص مسرحي مقتبس من أدب الديستوبيا المرير، فلا شيء أبدًا يوحي بأنه ارتكب جرم يبرر ضده هذا الحكم التعسفي، والذي يشبه تصرفات الأنظمة البوليسية حقيقةً لا مجازًا.
“متخابر مع قطر”!
في الحال اتصل بمديره المباشر أحمد بورحيمة، وأخبره بما جرى، وجاء مديره على الفور وقام بضمانته وإنقاذه من الحبس المؤقت، وقال له: “لابد من سبب، وسأعرف السبب”. وبعدها من خلال علاقات أحمد بورحيمة، علم أن الرشيد مشتبه بالتخابر مع قطر، وأن كل شيء “مسجل” لديهم، مؤكدًا بأنه لم يهتدي إلى واقعة تشير إلى حقيقة ذلك الاتهام!
وأضاف الرشيد: “بدأت أتذكر مع من تخابرت! فأنا ليس لدي نشاط سياسي. أنا مبدع، وعلاقاتي مع مبدعين”، إلا أنه وفي غمرة تساؤلاته تلك، استدعى علاقته بالمبدع القطري غانم السليطي، فهو الوحيد الذي كان على تواصل معه. وأردف الرشيد قائلًا: “كان يرسل لي فيديوهات لها علاقة بالمسرح والأدب لا أكثر” .
لا شيء من ذلك يحول دون انتشار عامل الإحساس بأن ثمة شيء خاطئ، فهو وعلى ما يبدو لم يكترث لقرارات دولة الإمارات، والتي كانت تنص على أن كل من يتواصل مع قطر عبر الاتصال المباشر أو السوشيال ميديا، يعرض نفسه للعقوبات، ومنها: “الإبعاد والفصل من العمل، والسجن”.
كما أن الرشيد بالفعل على علاقة عادية بالمخرج والإعلامي غانم السليطي، وبدأ التواصل معه به عندما تم تمت دعوه فرقة مسرحية سودانية هي “تالتن ومخالتن”، لتقديم عروض في الدوحة. وفي حفل تكريم الفرقة سألهم غانم عن الرشيد، فأشاروا له بأنه موجود في الإمارات، وهنا وفقاً للرشيد: “اتصل بي غانم، وشكرني على ما قمت به من جهد مسرحي، وكانت مكالمة ودية، لكنها كانت بمثابة قاصمة الظهر”، على حد وصف الرشيد، الذي فوجئ بعد ذلك بأن تلك المكالمة مسجلة كما قيل له.
أحكام سيف بن زايد
باختصار شديد غادر الرشيد أحمد عيسى الإمارات بعد أسبوع دون حتى أن يستلم حقوقه، وعندما تواصل بعض أصدقائه بالشيخ سلطان حاكم الشارقة للتدخل، قال لهم سلطان القاسمي: “أنا أعرف هذا الرجل وأقدره، لكن أي قرار من سيف بن زايد، وزير الداخلية الإماراتي، لا نتدخل فيه”، واعتبر الرشيد تجربته في الإمارات والتي امتدت لسبعة أعوام كانت جيدة من حيث العطاء الفني، إلا أن الإمارات، وكما اتضح لاحقًا: “دولة لا تحترم ولاتقدر حقوق الإنسان، وأبسطها أن أعرف لماذا أُبعدت”، كما قال.
وحول طبيعة التحقيق الذي أجري معه، قال الرشيد: “لم يكن هنالك تحقيق بالمعني المتعارف عليه، فقط تم استدعائى، وكل ما حدث أن الضابط راجع جوازي وسألني عن اسمي وبلدي، ثم تلى عليّ القرار بالإبعاد من الدولة خلال أسبوع”، مشيرًا إلى أن الصدفة وحدها أنقذته من الحبس، لأن العسكري المسؤول من التوقيف كان عضوًا في فرقة مسرحية أسسها الرشيد، فـ”اعتذر لي، وأبقاني لجواره في المكتب حتى لا يدخلني الحبس”.
دولة بوليسية غير ناضجة
وعندما حاولنا استنطاق الأمين العام للهيئة الدولية للمسرح علي مهدي حول ما جرى للرشيد أحمد عيسى، لاذ بالصمت، ورفض التعليق تمامًا، وهو ما يمكن تفسيره بعامل الخوف من غضبة الإمارات على كل من يتضامن مع الرشيد، ولربما أن بعض الفنانين، ومن بينهم علي مهدي لديهم مصالح في الإمارات لا يريدون الإضرار بها. كما أنه وبمجرد أن تسرب تفاصيل واقعة الطرد، استنكرت مواقع التواصل الاجتماعي السودانية إهانة رمز مسرحي سوداني هو الرشيد أحمد عيسى، واشتعلت الاستفهمات المستفسرة.
المثير، بل المحزن في قصة الرشيد أحمد عيسى، أنه لم يجد التضامن من رفاقه داخل الإمارات ومن خارجها، وهو ما أثار حيرته، بل إن معظم الزملاء والأصدقاء الإمارتيين خلال فترة التوقيف، انصرفوا عنه وكانوا عندما يلتقون به يطلبون منه أن يغلق هاتفه، خشية أن تطالهم الإجراءات الأمنية.
وقال الرشيد أيضًا، وهو يستدعي التفاصيل الأخيرة بشيء من الغرابة: “حتى إدارات دائرة الثقافة كانت تحذر الموظفين والزملاء من أن يأتوا بسيرتي”. وخلص إلى أنه لم يكن سياسيًا، وإنما عمل طوال تجربته على بناء الإنسان من خلال القيم الفنية وتطوير العمل الثقافي، لكنه لم يحظى بالتقدير من الإمارات، التي ساهم في بناء مجال ثقافي ربح بها، ليتكشف بعد ذلك أنها” دولة بوليسية غير ناضجة” على حد وصفه.
عزمي عبد الرازق