أعلن الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي -منتصف الشهر الجاري- نيّته اقتراح قانون يقضي بالتسوية في الميراث بين الرجل والمرأة، ليُعرض فيما بعد على البرلمان التونسي.
وأثار حديث السبسي -أثناء الاحتفال بالعيد الوطني للمرأة في تونس- جدلا داخل تونس وخارجها، وسبق للأزهر “قبل عام” أن أصدر بيانا عبر الصفحة الرسمية لوكيله في موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” رفض فيه الدعوة ذاتها التي جددها السبسي منذ أيام، معتبرا أن تلك الدعوات “تتصادم مع الشريعة، ولا تنصف المرأة، بل هي عين الظلم لها”. وأشار السبسي إلى أن المقترح “سيحترم إرادة الأفراد الذين يختارون عدم المساواة في الإرث”.
ما فتحه النقاش حول مسألة حظيت بتحديد واضح لأحكامها في النص القرآني يستدعي تساؤلا أكبر حول ما يسوغ فيه الاجتهاد ومخالفة ظاهر النص، وما لا يسوغ الاجتهاد فيه، وما هي الضوابط التي تحدُّ عملية الاجتهاد في النص الشرعي؟
هل يستدعي تغيّر الواقع في المسؤوليات تغيّر الحكم؟
تقول دعاء الشافعي، الباحثة بوحدة أبحاث القانون والمجتمع بالجامعة الأمريكية، إنها “تؤمن بما جاء في النصوص الدينية”، لكنها تتساءل: “إذا كانت تفسيرات المفسرين تربط بين إنفاق الرجال على الإناث وبين تميّزه في الإرث، فما الحكم في الوضع الحالي خاصة عند الطبقة المتوسطة التي أصبحت تشارك المرأة فيها في الإنفاق على المنزل مع الرجل، مع وجود حالات في المجتمع تنفق فيها المرأة وحدها، وعليها عبء النفقة كاملة، ولا يساعدها الرجل؟”
مؤكدة في حديثها لـ”عربي21″ أنها “لا تتبنى موقفا مخالفا للنص الديني، لكنها تتساءل بسبب هذا التغيّر الواضح في المسؤوليات الأسرية”.
الميراث جزء من إطار اجتماعي عام
يرى الدكتور محمود عبد الرحمن، أستاذ أصول الفقه بجامعة الأزهر، أن “ما يخالف قواطع القرآن والسنة لا عبرة به، والله سبحانه وتعالى وزّع الأموال وهو مالكها، ولا يمكن للبشر أن يعدّلوا على خالقهم، وهذا تطاول على حق الله”.
وحول إمكانية الاجتهاد والنظر في تلك المسألة، يقول د. عبد الرحمن: “إن الله في ختام آية المواريث يقول: (تلك حدود الله)، ولم يقل إنها مسألة اجتهادية، وقال في ختام سورة النساء التي فيها أحكام المواريث: (يبيّن الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم)”.
ويوضح في حديثه لـ”عربي21″ أن مسألة المواريث “تحتاج لنظرة شاملة، في إطار اجتماعي عام، المواريث جزء منه، والنفقات جزء منه، وتوزيع المسؤوليات داخل الأسرة، وهكذا، فلا يصح اجتزاء جزء من المعاملات من السياق”، مضيفا أن “المرأة قد ترث أكثر من الرجل المساوي لها في الدرجة، وأحيانا مثله وأحيانا أقل، ثم هي مكفولة في كل أحوالها إن كانت ابنة أو أختا أو زوجة أو أمّا، والميراث زيادة لها”.
وعن النصوص التي يسوغ الاجتهاد فيها، يرى د. محمود أن “النص القطعي في الثبوت والدلالة والمسائل المُجمع عليها لا يسوغ الاجتهاد فيها”، موضحا أن “النص قد يكون ظني الثبوت وقطعي الدلالة، لكن إذا أجمع العلماء عليه، صار قطعيا من الجانبين، الثبوت والدلالة”.
الاجتهاد له ضوابط
من جانبه، يرى الدكتور جاسر عودة، رئيس معهد المقاصد وعضو المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، أن “الرجال والنساء ليسوا سواسية في المسؤوليات والحقوق المالية الشرعية”، موضحا أن”الشريعة كلفت الزوج -مثلا- بالإنفاق وإعالة أسرته كلها، وجعلت المشاركة من الزوجة تفضلا وصدقة، إذ إنها مكلفة برعاية الأطفال، خاصة في صغرهم، ولذلك فقد تختلف أنصبة المواريث بين الرجال والنساء من الدرجة ذاتها”.
وتابع في حديثه لـ”عربي21″ بأن “مسألة الميراث ترتبط بالتشريعات الأخرى، كالنفقات والمسؤوليات الأسرية -كما يتصورها الإسلام- مبنية على طبيعة الرجل والمرأة والأسرة”، واستدرك قائلا: “ولكن نظرا للإشكالات الواقعية، فتشريع الوصية والهبة يمكن أن يحل المشكلة دون تغيير نظام الأسرة والنفقات”.
أما عن مساحات الاجتهاد في النص وإمكانية مخالفة ظاهر النص، بحسب عودة، فإن “التغيير لا بد أن يكون في أمور غير تعبدية؛ أي لا تدخل في تعريف الحرام كما هو واضح في الإسلام” مضيفا أنه لا بد أن يكون في “أمور لا تخل بالنظام الإسلامي العام”.
ويدلل عودة على رأيه بأن عمر رضي الله عنه عندما أسقط سهم المؤلفة قلوبهم من أنصبة الزكاة، فعل ذلك بمقصد “إعزاز الإسلام”، وكان يتحقق هذا المقصد بدفع المال للمؤلّفة قلوبهم، وأصبح الإعزاز يتحقق بعدم الدفع، فعمر رضي الله عنه “أدار الحكم هنا مع مقصد التشريع؛ لأنه اعتبر الظروف التي تغيرت، ورأى أنه لا حاجة لهذا السهم في ذلك الوقت، لأن تَقَوّي المسلمين بهؤلاء المولَّفين لم يعد مستهدَفا”.
ويضيف أنه كذلك فعل رضي الله عنه عندما “اكتفى بأخذ الجزية من أهل البلدان المفتوحة، وعدم تقسيم الأراضي ومَنْ عليها على الجنود”، فالمقصِد من جزءِ الغنيمة الذي يُقسم على المحارِبين هو نوعٌ من التعويض والمكافأة على ما بذلوه في القتال. ولكن أن تُقسم الأرض المفتوحة بمن فيها، و”المدن العِظام” –على حد تعبير عمر رضي الله عنه- فهذا مما يتعدى المصلحة المقصودة إلى مفسدة الإخلال الشديد بالتوازن في توزيع الثروات على الناس، وقال عمر كلمته: “فكيف نقسمه لهؤلاء ونَدَعُ من تخلَّف بعدَهم بغير قسمة؟” فأجمعَ عمر على تركه وجمع خراجه.
ويضيف عودة أن “الهدف من إدارة الأحكام مع مقاصدها الشرعية الحفاظ على مرونة الفقه الإسلامي، وقدرته على استيعاب تغيّر الأحوال وتبدّل الأمصار”، ويتحقق ذلك “عبر إعمال النصوص الشرعية كلها، بصرف النظر عما سُمّيَ بالتعارُض أو الاختلاف بينها؛ نظرا إلى أن إعمال النص أولى من إهماله -كما تقول القاعدة الأصولية- وعليه، فإنه لا يصحّ منهجيا إهمالُ أو إلغاءُ أي نص محكمٍ في كتاب الله أو مما صح من حديث رسوله بالرأي المجرد بدعوى الترجيحِ أو النسخِ من دون دليل”.
وأكّد في الوقت نفسه أن “الثوابتُ من النصوص، من قرآن وسنة، لا نزاع ولا اجتهاد في حجّيتها وإلزامِها لكل مسلم، وإنما البحث والاجتهاد هو في مقاصد هذه النصوص، وفي تحقيقها في الواقع، وفي هذا متسع للنظر”. مضيفا: “كما هو الحال في الحديث المشهور الذي أمر النبي فيه أصحابه بصلاة العصر في بني قريظة، وهو الحديث الذي يعدّ أساسا في رعاية المصلحة أو اعتبار المقصد من النص”.
عربي21