يعمل أودوغان لتحقيق هدف محوري وهام ، وهو أن تخرج تركيا من التبعية لتصبح دولة قائدة فى المنطقة ، والعالم ، وذلك أمر صعب ، وله أثمان كبيرة ، ولكن الملاحظ أن الرجل ليس من النوع الذى يقبل التراجع عن قراراته الكبيرة مهما كانت التضحيات ، ومن هنا فالمعركة بين أورودوغان وأعداءه ( الحلفاء الأعداء ) قوية وصعبة ، بل ومعقدة فى فهم أسرارها .
تعتبر الدولة التركية حليفة للولايات المتحدة ، بل وتعتبر عند البعض حليفا إستراتيجيا ، ومع هذا ، فجميع المؤشرات تدل على أن الدولة التركية ليست كذلك ، ربما السبب هو وجود أردوغان فى الحكم فى تركيا من جانب ، وترامب فى قيادة الولايات المتحدة الأمريكية ، ولهذا نجد أن الشخصية التى تقود تركيا ( أوردوغان ) يتصف بالحزم والقوة ، والعكس صحيح ، وهو أن ترامب كذلك شخصية حازمة وقوية ، ولكن الأول يريد من أمريكا علاقة ندية ، بينما الثانى يطالب من تركيا التبعية الكاملة .
تخطئ الإدارة الأمريكية فى تعاملها مع تركيا الحديثة ، وتنطلق فى رؤيتها بأن تركيا ما زالت حديقة أمريكية فى الشرق الأوسط ، بل هي فى نظرتها ما زالت جسرا للحضارة الغربية فى العالم الإسلامي ، ولكن هناك بعض الحقائق التى جرت على الأرض فى عقدين ، وهي تتمثل فى التغيير الذهني للإنسان التركي ، والذى يرى بأن تجربة حزب العدالة والتنمية فى الأرض تمثل نقلة نوعية فى التنمية ، ولهذا أصبح الإنسان التركي يشعر ولأول مرة أن التاريخ لا يصنع من الخارج فقط ، بل يمكن صناعته من الداخل ، ومن هنا رأينا الإلتفاف الجماعي النوعي حول القيادة التركية ، بل ونلاحظ الإجماع التركي فى الدفاع عن الأمن القومي من كافة الأحزاب السياسية بشتى توجهاتها الفكرية والأيديولوجية مما يسبب خلق جبهة داخلية قوية أمام الأعاصير السياسية المختلفة .
العلاقات الامريكية التركية بين الخسارة والربح .
……………………………………
تحاول الولايات المتحدة الأمريكية أن تكسر العظمة التركية من الظهر ، وتلك سياسة غير مخفية ، بينما يحاول أوردوغان أن يحمى ظهر تركيا من تبنى أحزمة مختلفة من القرارات الإستراتيجية ، ومن هنا نجد أن الصراع يتطور من الخفاء إلى العلن ، ومن الكلام إلى العمل ، وهذا يدل على أن الجانبين لم ينجحا فى التغلب على أسباب الخلاف الحقيقي ، وهو أمر لن يجد حلا ما دام كل واحد من الطرفين يسعى إلى تحقيق أهداف إستراتيجية فى السياسة الدولية .
إن النظام السياسي الحديث فى الولايات المتحدة بقيادة ترامب لا يعترف بسياسة إستخدام القوى الناعمة ، والتى كانت تتفنن فى إستخدامه الولايات المتحدة الأمريكية فى التعامل مع الدول سابقا ، ومن هنا رأينا ما فعل ترامب مع الحليف الإستراتيجي الأقوى فى أمريكا الشمالية ( كندا ) حيث أهان رئيس وزراء كندا ، وأعلن أنه سوف يتخذ إجراءات قاسية ضد كندا بما يمس إقتصادها ، والمعروف أن الإقتصاد الكندي يعتبر جزءا عضويا من الإقتصاد الأمريكي ، ولا يمكن الحديث عن إقتصاد أمريكي ناجح بدون كندا ، وكذلك العكس ، ولكن العنجهية تعمل فى غالب الأحيان بدون منطق .
حققت تركيا تنمية حقيقية فى الواقع ، وأصبح إقتصادها من أقوى الإقتصاديات فى العالم ، فهي دولة صاعدة صناعيا ، ومتقدمة تجاريا ، وتتحدث الأرقام الحقيقية بما يفوق الخيال فى بعض الأحيان ، والأرقام تأتى من هيئات محترفة ومحترمة ، وليست فقط كمشاريع دعائية لأجل الإنتخابات كما هو عادة العرب والأفارقة ، ودكر وزير المالية فى الحكومة فى عام ٢٠١٧م بأن ٩٠٪ من الميزانية موجه نحو الصحة والتعليم والبنية التحتية والدفاع والأمن ، وهذا يدل على أن الأولوية للحكومة مزدوجة ، فلا يمكن الفصل ما بين التنمية ، والدفاع بصورتيه ، الأمن الداخلي ، والأمن الخارجي ، وذكر الوزير بأن الحكومة سوف تخصص للتعليم ميزانية ضخمة تصل إلى ( ٣٥ ) مليار دولار أمريكي ، وتخطط لتوظيف أكثر من ثلاثة ملايين موظف فى عام ٢٠١٩م ، وذكر بأن حكومة العدالة والتنمية حققت فى غضون ( ١٥ ) عاما بناء طرق سريعة تحت قيادة الحزب ، وتصل طول هذه الطرق ( ٢٥ ) ألف كيلو متر ، بينما حققت الحكومات السابقة من تأسيس تركيا الحديثة ( ٦ ) آلاف كيلو متر ، ولهذا يلاحظ الإنسان التركي متانة الإقتصاد التركي ، والذى خرج من مرحلة التأسيس ، ودخل مرحلة الصعود .
دخل الأتراك عالم الصناعة بقوة ، وما زالت التجربة التركية فى هذا المجال تثير الإهتمام ، ووصلت صادرات تركيا فى عام ٢٠١٧م إلى ( ١٤٤ )مليار دولار ، وتتوقع تركيا فى هذا العام أن يصل التصدير إلى ( ١٦٦ )مليار دولار ، وتسعى تركيا فى هذا العام وما يليه إقامة مشاريع ضخمة وحقيقية منها مطار إسطنبول ، ونفق أوراسيا ، ويمثل قطاع العقارات من أفضل القطاعات فى العالم ، وتتحدث الأرقام بأن السياحة التركية استعادت عافيتها بشكل كبير حيث يؤكد معهد الإحصاء التركي أن عائدات السياحة فى البلد قد ارتفعت بأكثر م ١٨.٩٪ ، فى عام ٢٠١٧م ، ويؤكد كذلك الأرقام وزير الثقافة والسياحة فى تركيا حيث يقول : إن عائدات السياحة فى العام الماضى بلغت ( ٢٦ ) مليار دولار ، وسترتفع فى هذا العام إلى ( ٣٢ ) مليار دولار ، وأشار أن تركيا تستهدف ( ٤٠ ) مليار سائح ، وتتوقع تركيا أن يصل العدد فى نهاية عام ٢٠٣٢م إلى ( ٥٠ )مليون سائح و ( ٥٠ ) مليار دولار فى عام ٢٠٣٢م .
هناك واقع تركي جديد ، ولكن يواجه هذا الواقع التركي الجديد إعصارا خطيرا من ترامب ، فالولايات المتحدة تملك أوراق قوية فى زحزحة النظام الإقتصادي التركي ، ومن أهمها الدولار الأمريكي ، والذى صار كخطيئة إستراتيجية عالمية مرجع العملات ، ومركز النظام الإقتصادي العالمي ، كما أن بعض الصادرات السيادية لتركيا مرتبطة بأسواق الولايات المتحدة ، ولهذا تأثر سعر الصرف بقرارات ترامب الأخيرة وتهديداته ، ولهذا فليس من الذكاء التقليل فى خبرة الأمريكيين فى تهديد الدول الصاعدة ، وما أمر الدول التى سُميت حينا بالنمور الأربعة عنا ببعيدة .
فى الجانب الآخر ، يملك أوردوغان أوراقا ثلاثة ، كلها لصالحه ، وأولها ورقة البديل المحتمل كحليف إستراتيجي من الولايات المتحدة ، وهو ما كتبه الرئيس التركي فى مجلة ( نيويورك تايمز ) الأمريكية فى مقال له ، فذكر بأن أمريكا حليف إستراتيجي لتركيا ، ولكن الأمريكيين لا يتعاملون مع الأتراك كحلفاء ، ولهذا ذكر بأن تغير الحليف من جانب الأتراك ممكن ، ومن أهم الدول المرشحة روسيا ، والصين كقوتين منافستين للولايات المتحدة فى القيادة العالمية ، وإيران ، وأوكرانيا كقوتين صاعدتين إقليميا ، وهذا يمثل تهديدا للمحور الغربي ، والتى تقودها الولايات المتحدة ، والورقة الثانية تتمثل فى متانة الإقتصاد التركي ، وخروجه من لحظة التأسيس ، ودخوله فى مرحلة الصعود ، ووجوده فى الإقتصاد العالمي بقوة ، وهذه الورقة لها تأثير قوي فى المحيط ، ولهذا رأينا تداعيات هبوط الليرة أمام الدولار على العملات القوية وخاصة على اليورو كعملة رئيسية فى العالم ، أما الورقة الثالثة ، فتكمن فى شخصيته القيادية ، والتى قد تلعب دورا محوريا فى الوقوف أمام هجمة العملة التركية ، ولهذا دعا الرجل إلى جعل الليرة عملة للتبادل التجاري مع الآخرين ، ودعا المواطنين إلى تغيير العملات الأجنبية بالعملة الوطنية كورقة للمواجهة ، ويهدد الزعيم التركي أوردوغان بشكل مستمر أنه سوف ينقل المعركة إلى الذهب ، ولهذا يدعو مواطنيه إلى تغيير العملات الأجنبية بالذهب والليرة التركية .
ما زالت تركيا تحتفظ ببعض الخيارات للمواجهة ، وأخرجت اليوم ( ٦ ) مليارات دولار لأجل الضخ المالي ، و ( ١٠ ) مليارات ليرة فى الأسواق لمواجهة الإعصار ، وذكرت الدولة أن فى جعبتها خيارات أخرى ، وهذا يدل على أن الإقتصاد التركي ما زال قويا ، ولديه أوراق جيدة فى مواجهة الدول ، والتى تعتبر تركيا تجربة ثرية فى الخروج من أزمة الهوية ، والتنمية فى عالم ما بعد العولمة .
نجح أوردوغان فى الخروج من الإنقلاب الفاشل ، وهو الذى كانت وراءه دولة موازية فى الداخل ، ودول فى المحيط ، وقوى كبرى فى العالم ، وأدى هذا النجاح وجود وعي راق من الشعب ، ووجود يقظة سياسية من النخب ، واستخدام الذكاء السياسي من القيادة بكل أطيافها ، ولهذا فشلت تجربة الإنقلاب ، ولكن ما زالت الثورات المضادة فى العالم تحاول إسقاط النظام السياسي فى تركيا بكل الوسائل ، ومنها هذه الوسيلة التى تستخدمها بعض الدول لأجل صناعة ثورة داخلية فى البلد ، ولكن ما زال الرجل يمثل الرقم الأصعب فى تركيا ، وفى العالم الإسلامي .
إن الغرب لا يتوقف عن المحاولات ، فهو صبور فى هذا المجال ، ولا يملّ عن العودة من جديد ، ومن ثغرات مفتوحة ، لديه العشرات من المراكز ، والمتخصصين فى المجالات المختلفة ، ذلك لأن عمرو بن العاص رضي الله عنه ، المتخصص فى الدراسات السياسية والنفسية للشعوب ذكر بأن الروم من أخص خصائصهم ( وأوشكهم كرة بعد فرة ) ، فهم عكس العرب ، ذلك لأن لديهم مرض ( الملل ) كما نقل النفيسي من خبير أمني إسرائيلي حيث قال الأخير : العربي إنسان ملول ، ولهذا فلا بد من اليقظه المستمرة ، ولهذا وجدنا فى الكتاب العزيز الآية ( خذوا حذركم ) .
سوف أتناول فى مقال لاحق عن حديث ( تقوم الساعة والروم أكثر الناس ) ، لأجل توضيح مسألة مهمة ، وهي أن المعارك الحضارية تتطلب يقظة شعبية حقيقية ، وفهم ثاقب ، وذكاء سياسي ، ودراسات علمية ومستمرة للواقع السياسي .
بقلم
الشيخ عبد الرحمن بشير
*مفكر وكاتب جيبوتي