علاقة الشاعر بالوطن وأرض الميلاد وأماكن حكايات الصبا تظل على الدوام الدافع الإلهامي الأصدق والأقدار في خلق نظم كلامي محتشد بخيال لطيف وخصب وايضاً تكون تلك العلاقة بمثابة الصك الأميز لشرعية شعره وفحولته فمتى القى أو نثر الشاعر حروفه ساعياً لبناء قصائده في تلك المساحات التفَّ حولها الناس واحتفوا به وهذا ما كان مع شاعر الوطن والوجدان سيف الدين الدسوقي الذي قال كما ينبغي في شأن الوطن بكل تعريفاته (الأرض، الناس، القضايا….الخ) معلناً في ذات الوقت حرباً ضروس ضد الغربة وضد الإحباط حرباً لم تخلُ من استخدام مصدات التفاؤل وتحصينات الأمل سيف الدين الدسوقي الشاعر الذي تقول سيرته الشخصية إنه ولد عام 1936 في أم درمان بدأ حياته التعليمية بالدراسة في الكتاب، ثم أنهى دراسته الأولية والوسطى والثانوية ثم حصل على ليسانس في اللغة العربية من جامعة القاهرة- فرع الخرطوم حصل على دبلوم الصحافة من كلية الصحافة المصرية بالقاهرة حصل على دبلوم اللغة الإنجليزية من معهد ريجنت بلندن وأنهى دورات تدريبية داخلية وخارجية في الإذاعة والتلفزيون. حياته العملية عمل مذيعاً بالسودان مديراً للإخراج والمنوعات بالسعودية وعمل مديراً مناوباً لإذاعة وادي النيل بالسودان كتب للصحف في الداخل والخارج وللإذاعات العربية عشرات المسرحيات والبرامج.
رفضه للغربة لم يكن نتاج خوف افتراضي بل كان احساساً تجريبياً عايشه فقد اضطر كالكثيرين من أبناء بلده لمغادرة وطنهم سعياً وبحثاً في توفير المعايش، ولكنه اختلف عنهم؛ لأنه كان يعي قيمة الوطن ومرارة الغربة ولعله كان يهتف منذ وهلة الفراق الأولى بنصه الشهير الذي يقول فيه…..
أودع كيف ولسة الشوق بعيش فيّ
أفارقكم، دموع تغطي عينيّ
ولكن آه، وآه بتخفف الآلالم
بودعكم وتبقى سعادة الآيام
لو بالأيد أعيش بينكم مدى الأيام
أغنيلكم، وأنتو تكونو لي إلهام
ونزرع ريد وعالم كله خير وسلام
ولكن آه، وآه بتخفف الآلالم
لم تغرِ الدسوقي مباهج الغربة كثيراً بل ظل على الدوام في حالة شوق وحنين دفاق لأرضه ورفقائه حنين اقتحم قصائده واحتل قوافيه، حنين هتافي يرفض كل تلك الاغراءات ويحمل فلسفة كيفية أن يحيا الشاعر خارج وطنه وأرضه ولعل خير مثال ما ذهب إليه في النص الذي يقول فيه..
إحساسي لا يعرف طعم المال أو البترول
الشاعر يسمع صوت الحسن
ويحسن كل فنون القول
لكن أن يحيا في أرض جفاف
أن يصنع أعصاباً من ألياف
لتكون مكان الحس على الإنسان
فمحال ذلك ليس من الإمكان
ولذلك حين عبرت البحر إلى السودان
غنيت سعيداً كالأطفال
ونسيت حلاوة طعم المال
ورجعت أغرد بالأفياء بكل مكان
وركعت أقبل أمدرمان
هذي العاصمة الأنثى
أهواها مذ كنت غراماً في عيني أمي وأبي
وحملت الحب معي بدمي
في رحلة هذا العمر
واحمله حتى القى ربي
غربة الدسوقي من وجهة نظر أخرى كانت كسباً بالنسبة للمتلقين فقد قدم على إثرها العديد من الأشعار والفلسفات الأدبية التي دون شك عبرت عنهم واستفاد منها أما هو ومن خلال التتبع الشعري فيمكن القول أنه كان يتألم الى حد (التقطيع) من الغربة وينتظر ويترجى الرجوع فتجده يهتف قائلاً ….
عد بي إلى النيل
عد بي إلى النيل لا تسأل عن التعب
الشوق طي ضلوعي ليس باللعب
لي في الديار ديار كلما طرفت عيني
يرف ضياها في دجى هدبي
من كرامات الغربة ومن أجمل ما جادت به حنجرة الدسوقي في هذا الشأن الأغنية الشهيرة التي رددها الراحل أحمد الجابري (الرسائل) التي توضح أنه كما عانى من أزمة غربة وطن (تضاريس وطبيعة) فهو أيضاً عانى من أزمة غربة (شخوص) وحبيبة ويرسل الدسوقي في هذا النص عتاباً عن طول غياب وصعوبة غربة ويقول في مدخلها….
مافي حتى رسالة واحدة
بيها أتصبر شوية
والوعد بيناتنا إنك
كل يوم تكتب .. إليّ
هل يجوز والغربة حارة
بالخطاب تبخل عليّ؟
حمل سيف الدين الدسوقي كل أشواقه وعاد للوطن الذي طالما تباكى على فراقه فماذا كان ينتظره ..؟!!! غربة أخرى أقسى، غربة شعب كامل عن وطن غربة تجاهل الدولة للإبداع، غربة حاضر ومستقبل، غربة دفعته من جديد للكتابة والشعر ولكن هذه المرة تتحسس طعم المرارة أكثر بين السطور والقوافي غربة يقول فيها ….
أعود من غربة لي غربة أهاجر حتى في وطني
أعايـن لا مكانـي مكـان وأفكـر لا الزمـن زمنـي
عموماً يظل الدسوقي الشاعر الأبرز الذي شهر حروفه في مواجهة الغربة الذي ظلت تطارده حتى داخل وطنه حتى ورحل عن دنيانا الفانية مطلع العام الجاري عن عمر يناهز 79 عاماً ليترك الرهان معقوداً حول انتصار أشعاره التي تحد من الغربة وتساعد في إيجاد الوطن الذي يسع الجميع سلاماً وكفاية..
كتب: محمد الأقرع
صحيفة الجريدة