اللغة تنتقل بالعدوى

من تجربتي الخاصة، فإن الإنجليزية التي نتعلمها في مدارسنا في أوطاننا شيء، وإنجليزية الحياة اليومية في البلدان الناطقة بها شيء آخر، وكانت الإنجليزية هي أقوى أسلحتي الأكاديمية، فقد كان عقلي مصفحا لا تخترقه الأرقام، وبالتالي كان هناك عداء مستحكم بيني وبين الرياضيات، ثم توسعت دائرة العداء لتشمل الفيزياء ثم الكيمياء ثم »الرياضة«، وكنت كتلميذ أعوض الفاقد من درجات الرياضيات بدرجات عالية في الإنجليزية.
وكنت منذ بدء تعلمي الإنجليزية مغرما بها ومتفوقا فيها، بدرجة أن قدرتي على التعبير بالإنجليزية صارت أفضل من قدرتي على الكتابة بالعربية )خذ في الاعتبار أن لغتي الأم هي النوبية، وبالتالي كانت العربية بالنسبة لي »لغة أجنبية«، وأن لغة التدريس في السودان كانت الإنجليزية بعد المرحلة المتوسط/ الاعدادية(، وتم ابتعاثي الى لندن في أواخر السبعينيات لأتعلم فنون تعليم الإنجليزية باستخدام التلفزيون، واكتشفت حينها أنني أعاني من صعوبات في التواصل مع البريطانيين خارج قاعات الدراسة، لجهلي بكثير من مفردات الحياة اليومية »العامية«، وهذه ليست »مشكلة« تستعصي على الحل، لمن جعل او يريد أن يجعل من الإنجليزية سلاحا لكسب القوت، لأن الفوارق بين الإنجليزية العامية والفصحى بسيطة، ولأن الإنجليز وبعكس العرب يقومون كل سنة بترقية مئات الكلمات العامية الى »فصيحة« ويضيفونها الى قاموس أوكسفورد الأشهر.

وقد عملت مدرسا للغة الإنجليزية في المرحلة الثانوية، وكنت من أنصار مدرسة »الغمر الشامل« total immersion في تدريس اللغات، وتستوجب أن يستخدم المدرس اللغة التي يقوم بتدريسها طوال الحصة، وكنت بالتالي لا أتكلم بغير الإنجليزية مع الطلاب )وبالتالي فإنني أعزو بؤس تحصيل الطلاب العرب في اللغة العربية إلى كون المدرسين يستخدمون فقط لهجات بلدانهم في تدريس المواد بالعربية بدلا من الفصحى(، ولعلي أدركت قيمة »الغمر الشامل« من تعلمي اللغة النوبية، وهي لسان أهلي، فقد ولدت ناطقا بالعربية في وسط ناطق بالعربية، ثم أرسلنا أبي إلى بلدتنا النوبية للالتحاق بمدارسها التي كانت متفوقة على مستوى القطر، ولأن جميع من حولي كانوا يتكلمون النوبية فقط، ارتددت الى الأمية في اللغة العربية بعد نحو عامين، وصرت نوبيا أعجميا يحتاج الى مترجم كلما خاطبه شخص ما بالعربية.

وعندما انتقلت مع عائلتي الى لندن في تسعينيات القرن الماضي، كنت مدركا أن أسرع وسيلة لجعلهم يتقنون الإنجليزية هي الغمر الذي يحدث معظمه تلقائيا لكونهم موجودين في بيئة ناطقة بالإنجليزية، ولكنني لم أكتف بذلك، بل كنت ألزم عيالي بمتابعة بعض البرامج التلفزيونية، وقراءة أبواب معينة في الصحيفة التي كانت تصدر وتوزع مجانا وتخص منطقة إقامتنا في فينشلي في شمال لندن، وكنت أدفعهم في المطاعم والمتاجر ومحطات القطارات لتولي الحديث مع القائمين على أمور تلك الجهات، وكنا نعقد منافسة لنعرف كم كلمة إنجليزية جديدة اكتسبها كل منهم، وشجعتهم على تكريس دفاتر لتسجيل الكلمات والتعابير »الجديدة« ليرجعوا إليها ويحفظوا معانيها وطرق كتابتها واستخدامها، وبعد نحو تسعة أشهر من وصولنا الى لندن كنت قد اتخذت قرارا ديمقراطيا بمنع استخدام الانجليزية في البيت، لأنهم التقطوا تلك اللغة بسرعة وصاروا يتخاطبون بها في البيت، وكانت قاصمة الظهر عندما طلبت من أصغرهم )لؤي( وكان دون الثالثة بقليل أن يأتي لي بجريدة من سيارتي التي كانت رابضة أمام باب البيت، فسألني: ياني شنو جريدة؟ فقلت له: نيوزبيبر، فسألني: ياني شنو سيارة.. وكان فرمان منع التحدث بالإنجليزية ضروريا كي لا يفقد عيالي ألسنتهم العربية، كما حدث معي في طفولتي وصباي، مما تطلب مني جهدا استثنائيا كي أتقن التخاطب بالعربية وأنا طالب في المرحلة الثانوية متخطيا مرحلة: اسمي جافر أباس.
والشاهد هو أنه بمقدور أي إنسان أن يتقن لغة ما إذا عقد العزم على ذلك، ثم أتبع العزم بالجهد والمجاهدة والمكابدة، واللغة أنثى، والأنثى تخلص لمن يخلص لها ويحسن التعامل معها.

زاوية غائمة
جعفـر عبـاس

Exit mobile version