أجرى المدير السابق لبرنامج إفريقيا بمعهد السلام الأمريكي “جون تيمين” دراسة بعنوان “دولة جنوب السودان من الاستقلال إلى الحرب الأهلية” تناول فيها السياسة الأمريكية نحو دولة جنوب السودان، استند فيها على مقابلات مكثفة أجراها مع أكثر من 30 من صناع القرار بالإدارة الأمريكية السابقة والحالية، إضافة إلى خبراء بالشأن السوداني ومراقبين.
اعتراف صريح
واعتبر إعلاميون أمريكيون مهتمون بالشأن السوداني أن هذه الدراسة اعتراف صريح وواضح من قبل الإدارة الأمريكية بفشلها في إدارة ملف دولة جنوب السودان. وقال مراسل صحيفة ماكلاتشي الأمريكية و شبكة ‘فويس أوف أمريكا’ للشأن الإفريقي ألان بوزويل في تغريدة بحسابه على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر”، إن هذه الدراسة تعتبر إقراراً بفشل السياسة الأمريكية نحو السودان، معتبراً أنها دراسة جديرة بالقراءة.
وطرح “جون تيمين” الذي كان عضواً سابقاً بفريق تخطيط السياسات بالخارجية الأمريكية تساؤلاً بشأن ما إذا كانت اتفاقية السلام الشامل التي أنهت الحرب
الأهلية في السودان، مسؤولة عن انهيار جنوب السودان؟
معتبراً أن هناك حجَّتَيْن في ذلك: الأولى أن اتفاقية السلام الشامل والولايات المتحدة التي تعتبر الداعم القوي لها، شجعت حركة تحرير السودان، لا سيما أنها حركة تمرد لا تحفل بالمساءلة أو الديمقراطية؛ والحجة الثانية تتمثل في أن مهندسي اتفاقية السلام الشامل فشلوا في توقع انفصال جنوب السودان، الذي يعتبر الاحتمال الأكبر، أو أن تكون هناك خطة لبناء الدولة، ولم يعدوا لعملية انفصال تدريجية وآليات رقابة دولية تكبح جماح الحركة الشعبية، وتؤسس لدولة قوية.
ويرى “جون تيمين” أن الدافع وراء الدعم الأمريكي لجنوب السودان، هو العداء المتجذر نحو شمال السودان، فقد كانت الخرطوم وواشنطن على طرفي نقيض، بما في ذلك إيواء أسامة بن لادن وبعض المجموعات المتطرفة، والحرب الأهلية مع الجنوب، وأزمة دارفور، فقد خشيت الخرطوم في بعض الأحيان، خاصة عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر من أن تتبع واشنطن سياسة تغيير النظام في السودان. ويشير الخبير الأمريكي، إلى أنه بغض النظر عن صحة أسباب هذه المخاوف أم لا، فقد تأصلت في واشنطن فكرتان، كما تحدث عنهم مسؤول أمريكي سابق، فعلى مدى عقدين من الزمان، تبنى داعمو حركة تحرير السودان في واشنطن مفهومين شكلاً البيئة السياسية نحو السودان، أحدهما “الأخيار” ممثلين في متمردي الجنوب وتمثلهم الحركة الشعبية – يتعرضون للقمع من “الأشرار” الذين تمثلهم السلطة في الخرطوم؛ مُشيراً إلى أن أي وجهة نظر مخالفة لذلك كانت تؤطر أما كمعادلة أخلاقية، أو أنها مساعدة غير مباشرة للعدو.
ويقول مسؤول أمريكي سابق، إن المسؤولين الأمريكيين – بوعي أو دون وعي – كانوا حذرين بالنسبة لقضايا “العدالة الأخلاقية”؛ حيث يُشير إلى أنهم عملوا على تخليص الجنوب من سلطة الخرطوم دون أن يفكروا في إلقاء نظرة على من كانوا يدعمون، وإلى أيِّ مدى أنهم غير ديمقراطيين.
فيما ذهب مسؤول أمريكي سابق أبعد من ذلك حيث يقول “إنه إذا كنا صريحين فكرياً، فإن فصل جنوب السودان، غير قابل للتطبيق، لكن فكرة إعطاء الخرطوم ما ترغب فيه، كان أمر بغيضاً”.
انقسام حاد
وتشير الدراسة إلى انقسام حاد بين المسؤولين الأمريكيين الذين أُجريت معهم مقابلات، حول مدى تأثير الولايات المتحدة ونفوذها على جنوب السودان ومنطقة شرق إفريقيا، ونتائج ذلك على الأرض. ويقول أحد المسؤولين السابقين بالإدارة الأمريكية: “لقد حقَّقنا لهم المعجزات – في إشارة لجنوب السودان – فاتفاقية السلام الشامل لم تكن لتنجز دون الولايات المتحدة”؛ فيما يقول مسؤول آخر يخالفه الرأي إن مفاوضات اتفاقية السلام الشامل كانت بمشاركة الهيئة الحكومية للتنمية “إيقاد”، تكتل شرق إفريقيا، وأن الولايات المتحدة كانت مراقباً ولم تنخرط في الجانب الموضوعي كما هو متوقع.
وتقول الدراسة إن هناك سؤالاً ما يزال مطروحاً بشأن ما إذا كانت الولايات المتحدة في سعيها لإنهاء الحرب الأهلية في السودان، فكرت بصورة جيدة ما الذي
كانت تدعمه؟ ومن الذي كانت تدعمه؟
ويقول مسؤول بالإدارة الأمريكية الحالية إنهم في دعمهم لانفصال جنوب السودان، ورغبتهم في اتفاقية السلام الشامل، أسقطوا الكثير من تفكيرهم بشأن أفضل الحلول.
وتُشير الدراسة إلى أن دعم الولايات المتحدة لاتفاقية السلام الشاملة، وقضية جنوب السودان بصورة أوسع، وترددها في انتقاد الحركة الشعبية لتحرير السودان والجيش الشعبي، خلال فترة اعتبرت حساسة بالنسبة لمفاوضات اتفاقية السلام، ومن ثم تطبيق الاتفاقية، غرست في القيادات الجنوبية عدم المحاسبة التي امتدت إلى اليوم. وقد أعرب مسؤول سابق بالإدارة الأمريكية عن أسفه قائلاً: “لقد أظهرنا لهم أنه يمكنهم التصرف بحصانة، وأنه يمكنهم بناء دولة جديدة عن طريق العنف، والمضي في ذلك دون محاسبة”.
ولفتت الدراسة إلى تطابق وجهات العديد من مسؤولي الإدارة الأمريكية الذين شملتهم الدراسة، وجهة النظر التي عبر عنها أحدهم بأن “جوبا تعتقد أن الولايات المتحدة ستظل تدعمها في كل الأحوال”.
ويقول مسؤول أمريكي سابق، إنه في الوقت الذي اشتعلت فيه أزمات ما بعد الاستقلال كان شعور عدم المحاسبة والإفلات من العقاب قد تأصل فيهم.
وتشير الدراسة إلى أن هناك انتقاداً آخر يوجه إلى اتفاقية السلام الشامل، وداعميها الدوليين الذين لم يولوا إلا القليل من الانتباه إلى الاحتمال الحقيقي، لانفصال الجنوب، والتحديات المرتبطة بتشكيل الدولة.
واختلف الأشخاص الذين أجريت معهم المقابلات حول كيفية فهم احتمالية انفصال الجنوب، في نهاية المطاف عندما تم توقيع الاتفاقية في عام 2005، فيرى البعض أن الزعيم الراحل جون قرنق كان، على الأقل ظاهرياً، مؤيداً للوحدة مع الشمال (على الرغم من أنه ربما تأسست الفكرة على أن تكون الوحدة تحت قيادته)، في حين قال آخرون إن ذلك كان من الواضح دائماً أن جنوب السودان سيصوت بأغلبية ساحقة لصالح الانفصال، كما فعلوا في نهاية المطاف.
عدم جدية
ويقول أحد المراقبين إن اتفاقية السلام الشامل لم تؤخذ بجدية على أنها “وثيقة انفصال” بسبب موقف قرنق المؤيد للوحدة؛ فيما وصف أحد المسؤولين السابقين بالإدارة الأمريكية اتفاقية السلام الشامل بأنها “اتفاقية انفصال عن الشمال”.
ويقول مراقبون إنه إذا كان هذا هو الحال، فقد فشلت اتفاقية السلام الشامل في تصور ما بعدها، حيث يقول أحد الخبراء من دولة جنوب السودان: “إذا كنت تعطي شخصاً الحق في الانفصال، فيجب أن يكون هناك تصوُّر لما يحدث بعد ذلك، وهل هو أفضل ما يمكن الحصول عليه في المفاوضات، وأن تكون هناك خطة مقنعة لبناء الدولة، وأنه إذا كانت هناك هندسة سياسية لهدف معين، فإنه ينبغي أن يكون هناك فهم أفضل لخطورته”.
وأعرب العديد من المسؤولين الأمريكيين الذين شملتهم المقابلات عن أسفهم لعدم استخدام الولايات المتحدة نفوذها خلال الفترة الانتقالية بين توقيع اتفاق السلام الشامل وإجراء الاستفتاء، لإصلاح الحركة الشعبية، والتركيز الأعمق على بناء الدولة.
ويقول مسؤول أمريكي سابق، إن هذه الفترة “كانت تحظى بأكبر قدر من النفوذ، فالاستفتاء حرفياً لم يكن سيحدث دون واشنطن، فقد كانوا يضعون جميع بيضهم في سلتنا، ولكننا لم نطلب أي شيء، لم تكن هناك خطة لما بعد الانفصال”.
ويقول أحد المراقبين: “إننا لم نكن مقتنعين بضرورة استخدام الانفصال كوسيلة ضغط، لم نكن نضع في اعتبارنا أننا نتعامل مع مشكلة كبيرة”.
صحيفة السوداني.