كأس العالم المهاجر

انفض سامر بطولة كأس العالم بروسيا بتتويج فرنسي، ونالت باريس اللقب للمرة الثانية بعد عشرين عاماً من فوزها به في العام1998م، كانت السيقان السمراء هي أحصنة الفرنسيين الرابحة، في المرة الأولى قبل عشرين سنة كان الجزائري زين الدين زيدان هو الذي يقود الديوك الفرنسية للفوز ومنصة التتويج، والآن زمرة من الفرنسيين من أصول أفريقية ومهاجرين وهم الأكثرية في الفريق الفرنسي، يضعون بلدهم الذي يعيشون فيه في قمة كرة القدم العالمية، يحتفي كثير من الناس بما يرونه في فرنسا من قيم التنوع والفرص المتكافئة والمجتمع المزيج الذي تتلاقح فيه الدماء والأعراق والأجناس، وهو الذي مهد الطريق لصناعة فريق كرة قدم يردد المارسيليز ويعلن فوز فرنسا من تحت أقدام الشباب القادمين والمنحدرين من مستعمراتها السابقة .

> لكن الذي يجب النظر إليه بعمق، أن كرة القدم وهي تجارة رابحة في العالم، تُنفق فيها مئات الملايين من الدولارات، فضلاً عن كونها ثقافة وفن وقيم اجتماعية، تعطي ملمحها السياسي وأبعادها الحضارية والتاريخية. فانتصار فرنسا ونيلها كأس العالم في المرة السابقة وهذه المرة، هو جزء مما يُقال الآن عن عالم جديد، وعولمة ماضية بقوة نحو غاياتها بتضييق، الفوارق في مجالات الرياضة والفنون، وفي الآداب وتوسيع الفواصل في كواليس السياسة وداخل القصور التي تصنع القرارات وتحدد مصائر الشعوب ..

> فرنسا اليوم تقف على قدمين معروقتين، تتنزى مسام الجلد الأفريقي لتروي نبتة المجد الكروي المستحق في ساحة النزال في موسكو الغارقة في فرحتها بنجاح تنظيم كأس العالم الذي قالت عنه الفيفا إنه الأفضل في تاريخ هذه البطولة العالمية، وكأن حالة الأمس تقول إن أوروبا بنقائها العرقي كما هو حال الفريق الكرواتي القادم من وسط القارة العجوز دون أن يكون فيه مهاجر واحد ولا لاجئ ولا غريب، تعجز عن تحقيق نصرها وحدها ولن تستطيع قهر القدر المحتوم في تصاهر الدماء وإتاحة السوانح للمبدعين من المهاجرين ومن ألقت بهم الشواطئ ومياه البحر الأبيض المتوسط على التراب الأوروبي. ففرنسا مغرمة حتى الثمالة بما تقدمه ما نماذج، وتظن أن ثقافتها وتسامحها هو الذي يهب كل القادمين إليها مفتاح النجاح ..

> هو ركام من أحلام، فالتاريخ القديم لا تكشطه مجرد لعبة رياضية، تحتاج العقلية الفرنسية بمحمولها الاستعماري القديم، أن تتقدم خطوات، فما الفارق بين المصارعين في حلبات الموت عند الإغريق والرومان في العصور السحيقة في أوروبا وهم من ذوي البشرة السوداء والمسترقين، الذين يأتون بهم للترفيه عن الأباطرة والملوك وغانياتهم وجمهورهم المتعطش لرائحة الدم، وبين الأبطال الجدد بالزي الفرنسي ولقب الديوك يحققون نشوة النصر من جديد، تبتهج بهم فرنسا البيضاء قبل فرنسا الملونة او فرنسا الأخرى التي تعيش في الأرصفة وتحت الكباري وفي الأزقة الشعبية الضيقة أو معسكرات اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين الذين ينتظرون إذناً بالعيش في رغيد الحياة الفرنسية .

> مقابل ذلك.. كانت كرواتيا الدولة التي ولدت في عقد التسعينيات من القرن الماضي، ولم تتكون هويتها القومية إلا قبل سنوات، كانت تكتب ملمحاً آخر .. إن الإرادة الإنسانية لا حد لها وإن الإنجاز لا يُقاس بحجم الدول ومساحتها وتاريخها وعدد سكانها. قد تكون صغيراً وتستطيع منازلة الكبار، وقد تعيش صغيراً لا يؤبه لك، لكن بإمكانك أن تتحول من خمول الذكر الى نجم ساطع لا يحجبه سحاب ولا يغطيه ظلام دامس.
> هكذا تحول هذا البلد الصغير الى ثاني أبطال العالم في لعب كرة القدم اللعبة الشعبية الأولى في العالم، جلست كرواتيا في المكان الذي كان يمكن أن يكون فيه الإنكليز بتاريخهم وريادتهم لكرة القدم التي ينسبون منشأها لهم، وجلست ( زغرب) حيث كان يعتقد أن تكون (برلين ) مكانها أو ( زغرب مدريد أو لشبونة أو مكسيكو سيتي أو بيونس أيرس أو برازيليا أو روما ) ، كل التوقعات انقلبت في بطولة كأس العالم في روسيا رأساً على عقب، ليس هناك من مستحيل ولابد كما قال المتنبي في كل حال دون الشهد من إبر النحل..
> فلتهنئ فرنسا نفسها بمزيجها وملونيها وتقول إنها بلا لون ولا جلد واحد ولا عرق ولا جنس، ولتحتفي كرواتيا بعزيمتها ودرسها البليغ .. كانت النهاية فرنسية لكنها أيضاً لكرواتيا كانت مجرد بداية ..

الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة

Exit mobile version