اندلعت الحرب التجارية على نطاق أوسع مما كان متوقعاً، مع دخول أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم، الولايات المتحدة والصين، في مواجهة مباشرة برسوم ورسوم جمركية مضادة تشمل سلعاً مستوردة ومصدرة بين البلدين بقيمة 60 مليار دولار.
وارتفعت وتيرة التهديد ليتناول الحديث رسوماً أميركية قد تشمل كل السلع الصينية المصدَّرة إلى الولايات المتحدة والبالغة قيمتها 450 مليار دولار، «إذا بالغت الصين في رد فعلها ولم تستجب لجهود إعادة التوازن التجاري المختلّ بين البلدين، الاختلال الذي تدفع ثمنه الولايات المتحدة عجزاً تجارياً قيمته 300 مليار دولار سنوياً»، كما يقول مسؤول اقتصادي قريب من البيت الأبيض. وتوقف محللون أمام بوادر هذه الحرب التجارية، محذّرين من تحولها إلى حرب اقتصادية شاملة تنقضّ أسلحتها المدمرة على الاستثمارات أيضاً، بما يؤثر سلباً في نمو الاقتصاد العالمي، ويعيد إلى الذاكرة تداعيات الأزمة المالية التي اندلعت في 2008 ولا يزال العالم غير متعافٍ تماماً منها.
إلى ذلك، ذكر محللون أن قواعد منظمة التجارة العالمية باتت تُنتهك كل يوم. وتقف تلك المنظمة عاجزة أمام النزعات الحمائية التي استعرت الحمى فيها على نحو لم يسبق له مثيل في التاريخ الاقتصادي الحديث، وسيشكل ذلك تقويضاً لقواعد اجتهد العالم على مدى نصف قرن لتثبيتها.
وإذا كانت الولايات المتحدة الأميركية تنادي بتجارة عادلة لأنها ترى عجزها التجاري متفاقماً جداً لا سيما مع الصين وأوروبا وكندا والمكسيك، فإنها لا تخفي السبب الحقيقي الآخر وراء نزاعها مع الصين، متهمةً إياها بانتهاك حقوق الملكية الفكرية والتكنولوجية الأميركية. فشركات الإنترنت وتقنية المعلومات الأميركية والأجهزة الذكية على أنواعها ترى يومياً كيف أن الشركات الصينية تنافسها خطوة وراء خطوة في كل ابتكار واختراع في هذا الاقتصاد المعرفي الحديث الذي يحل تدريجياً محل الاقتصاد القديم.
ولا تخفي الولايات المتحدة نيتها الاتجاه نحو مزيد من الرقابة الصارمة على الاستثمارات الصينية في قطاع التكنولوجيا الأميركية، الذي جعل من الولايات المتحدة سيدةُ لا تضاهَى في هذا المجال عالمياً، و«هي ليست مستعدة للتخلي عن هذه الميزة التفاضلية لمجرد أن الصين قادرة على نسخها بسرعة أكبر من غيرها» كما يقول محلل لتطور وتفوق شركات «غافام» (غوغل وآبل وفيسبوك وأمازون ومايكروسوفت).
لكن قد تكون الحرب التجارية مع أوروبا وكندا والمكسيك أسهل بالنسبة إلى الرئيس الأميركي من حربه من التنين الصيني، الذي بات حاضراً في كل مجالات المنافسة تقريباً، ولا تتوانى الحكومة الصينية عن تقديم رعايتها السيادية المباشرة للتوسعات في كل المجالات باستخدام صيغة الشركات المختلطة بين عامة وخاصة في نموذج قلّ نظيره حول العالم، لا سيما الدول الليبرالية في اقتصادها، وهنا بيت القصيد عند الحديث عن تنافس غير عادل من وجهة نظر الأميركيين كما الأوروبيين.
ويؤكد خبراء الأسواق أن الحرب بين الطرفين ستتوسع إذا علمنا أن الصين تنافس بقوة أيضاً في قطاعات أخرى حساسة مثل المال والمصارف، ولديها 4 مصارف في قائمة العشرة الكبيرة مقابل 5 للولايات المتحدة، وهذا واقع جديد لم يكن له أي أثر مع بداية الألفية الجديدة. وفي عالم التكنولوجيا تملك الصين كبرى الشركات العالمية في هذا القطاع بعد الولايات المتحدة وتصدّر تقنياتها بأسعار تنافسية بينما تفرض قيوداً على الشركات الأميركية الداخلة إلى سوقها التكنولوجية. ويشير المتخصصون في الاقتصاد الصيني إلى أن بكين لا تنوي التوقف عند الرد بالمثل، أي برسوم في مقابل رسوم، إذ لديها أدوات أخرى لا تقل أهمية وربما خطورة.
وهي حتى الآن غير قلقة كثيراً من الرسوم الأميركية لأن البضائع الصينية المتوجهة إلى الولايات المتحدة تساوي 3 أضعاف نظيرتها بالاتجاه المعاكس. والرسوم الجديدة لا تؤثر إلا بنسبة 0.2% في النمو الاقتصادي، كما أكدت السلطات المعنية، أمس.
وتنتظر الصين اشتعال الحرب أكثر لتشهر أسلحة أكثر تأثيراً وإيلاماً مثل السلاح النقدي القاضي بترك اليوان يتراجع أمام الدولار، علماً بأن العملة الصينية ممسوكة الصرف حالياً من السلطات الرسمية. وأي خفض لقيمة اليوان سيعطي بكين نقاطاً تُضاف إلى تنافسية سلعها بما يعطل أثر الرسوم الجمركية الأميركية. لكنّ هذا السلاح بحدّين لأن الصين تعلم أن استقرار العملة شرط أساسي لتقنع العالم بأنها مكان آمن للاستثمار.
إلى ذلك هناك سلاح الدَّين. فالإحصاءات الأخيرة أظهرت أن بكين بدأت ببيع سندات أميركية تملك منها ما قيمته أكثر من 1,1 تريليون دولار، وهذه الحيازة هي الأكبر عالمياً. فإذا تنامى اتجاه البيع سيشكل لطمة موجعة للولايات المتحدة التي تحتاج إلى مزيد من الدين العام لتحقيق توجهات ترمب الاقتصادية، علماً بأن سعر الفائدة حالياً في مسار صاعد. لكن على الصين أيضاً أن تنتبه إلى هذا السلاح الذي قد تصيب به قدميها، لأن بكين جالسة على جبل من السندات التي إذا هبط سعرها يهبط معه تقييم ما بحوزتها منه.
ويضيف المحللون: «ستبقى بكين تلوِّح من بعيد بأسلحة كهذه لترى إذا كان باستطاعتها جعل ترمب يتوقف عن هجومه أو على الأقل التخفيف من غلواء الحمائية الأميركية المستجدة، والتي تتوعد بالمزيد من المفاجآت غير السارة». «كن صامتاً سراً حتى ينقطع النفس،
وهكذا تستطيع السيطرة على مصير عدوك»، هذا ما كان يقوله الجنرال الصيني الشهير سون تزو الذي اشتهر أيضاً بالكتابة الفلسفية، وذلك قبل الميلاد بنحو 500 سنة. وهذا الجنرال يعد، على أكثر من صعيد، مرجعية في ثقافة الرسميين الصينيين اليوم بسبب عبقريته العسكرية وكتابته عن فنون الحرب فضلاً عن فلسفته الفريدة المناسبة للعقل الصيني ماضياً وحاضراً.
صحيفة الشرق الأوسط.