مهما تصورتُ.. لم يدر بخلدي أن تلفزيوننا القومي العريق العتيق قد بلغ هذه المرحلة من التراجع والبؤس في بيئته المهنية ومناخ العمل، وهو ثاني تلفزيون في إفريقيا والعالم العربي مطلع الستينيات من القرن الماضي، وثالث ثلاث من هيئات البث التلفازي العربية والإفريقية صعدت إلى الفضاء الخارجي في النصف الأول من عقد السنوات التسعين في الهزيع الأخير من القرن العشرين، وعلى كثرة المرات التي زرناه فيها، كان مساء أول من أمس فاجعة لي، لأنني تلمست الحال المزري عن قرب ورأيت وراقبت بيئة العمل السيئة عن كثب، فكيف يؤدي العاملون في التلفزيون عملهم في هذا المناخ والجو الذي لا يليق بتاريخنا الإعلامي وريادتنا وتقدمنا على الآخرين في هذا المجال الحساس؟ وزاد ذلك الإشفاق على أخينا وصديقنا السيد السفير العبيد مروح وهو يتبوأ مقعد المدير العام للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، في مثل هذه الظروف القاسية وهو يلقى في اليم ربما مكتوف اليدين.
> تلفزيوننا العريق وأخته الكبرى الإذاعة، يعانيان من حالة محزنة من الإهمال والتردي في كل شيء، الاستديوهات، المعدات، المكاتب والمرافق الأخرى، أدوات الحركة والتنقل، النظم ونوعية البث، فهناك أزمة مركبة تعيشها الهيئة العامة للعمل المرئي والمسموع وهي أخطر أدوات الإعلام ووسائطه، في التلفزيون جلسنا في الاستديو الرئيس، طاولاته المتهالكة القديمة، التكييف، الديكور، الإضاءة، الصوت، التجهيزات الفنية والكاميرات، كل شيء قديم تقليدي، لا يشبه حتى تلفزيونات الدول الفقيرة حولنا التي جاءت بعدنا وتعلمت منا ونقلت من تجربتنا، في غرف التحكم التي تدير ما يدور في الاستديو بكل مكوناته الخاصة بمراقبة جودة الصورة والصوت الخارج من الاستديو وما يتصل بها، والصالات للإنتاج وإعداد المادة التلفازية، وغرف وحدات المونتاج للبرامج والتقارير، ثم غرفة البث التي تحدد نوعية البث وجودته، مازال التلفزيون يعمل على النظام القديم (S D) دون أن ينتقل إلى نظام (HD) وهو النظام الحديث الحالي الذي تعمل عليه عدد من القنوات الفضائية السودانية الخاصة التي ولدت من صلب التلفزيون القومي الذي عجز حتى اللحظة عن اللحاق بغيره ولن يلحق بالطبع بنظام 4K) ) الأكثر تطوراً وحداثةً ليقدم صورة ذات دقة عالية.
> في بيئة العمل الأجهزة والمعدات رغم حدوث تحديث نوعي في الكاميرات وبعض معدات الإضاءة وبعض أجهزة المونتاج، مازال هناك نقص حاد يشعر به الزائر للتلفزيون من المدخل حتى (بلاتو) الاستديوهات في الكاميرات الحديثة والطاولات والكراسي والديكور والتكييف، ويمتد هذا إلى بقية مكونات العملية التلفزيونية في غرف التحكم والمونتاج والبث من نقص في الفيديوهات المكسرات للصوت والصورة، فالتلفزيون القومي مازال متخلفاً ومتوقفاً في نقطة ثابتة منذ آخر تحديث له وبعضه منذ التسعينيات.
> أما خارج الاستديوهات فحدائق التلفزيون وممراته جرداء، ومكاتبه القديمة متهالكة، وحماماته لا تليق بإنسان، ويوجد نقص كبير في العربات لنقل العاملين وترحيلهم، وعربات البث المتنقلة والمينوس والإنترنت عالي السرعة، فكل هذا ينعكس على العمل ونوعيته وتفوقه.
> أما في مجال أوضاع الهيئة وقوانينها فلا يوجد قانون للهيئة وإنما تعمل بأمر تأسيس، وكانت هناك محاولات من الوكيل السفير ياسر خضر لإعداد قانون للهيئة وهيكلة الهيئة، لكن ذلك لم يتم حتى اللحظة، وهناك تدهور مريع في حقوق العاملين واستحقاقاتهم ومرتباتهم وحوافزهم وحوافز الضيوف الذين يشاركون في البرامج والتعليقات، وكثيراً ما تحدث احتجاجات للعاملين في الإذاعة والتلفزيون.
> ما نريد إلا الإصلاح من هذا الحديث، فالملاحظات التي رأيناها كنا نمر عليها مرور الكرام، لكن ما تحسسناه داخل الاستديو الرئيس جعلنا ننتبه لبقية ما يعاني منه التلفزيون والإذاعة، فالإذاعة تعاني من ظروف أشد قسوةً، فهناك ظروف ضاغطة أدت لإهمال الوثائقيات والأشرطة القديمة والثروة الإذاعية الهائلة، وربما تضيع مواد إلى الأبد، رغم أن عملية النقل من الأشرطة القديمة إلى الذواكر الرقمية قد تمت من فترة لكنها ليست كاملة، وبجانب ذلك تسرب المواد القيمة من المكتبة الإذاعية والتلفزيونية من أغانٍ وبرامج وتسجيلات نادرة أو بيعها لجهات أخرى.
> مع تمنياتنا بالتوفيق لصديقنا السفير العبيد مروح، لكن هذه صورة رأيناها ووقفنا عليها، وعلى الدولة أن تشرع فوراً في وقف التدهور المريع للإذاعة والتلفزيون، وأن تدعم بقوة وتوفر كل الاحتياجات حتى تعبر الهيئة هذه الظروف، وإلا سنصحو ذات يوم لنجد أن هذه الأجهزة الإعلامية قد صمتت تماماً وغابت عن المسمع والمشهد العام.. ألا هل بلغت اللهم فاشهد.
الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة