عندما بدأت مارشات الإنقاذ تعزف موسيقاها العسكرية في الثلاثين من حزيران/ يونيو 1989، كنت في السابعة من عمري تقريبًا، ولم أكن أعرف على وجه الدقة هل من الضروري على الثورة أن تندلع عبر هبة شعبية أم بانقلاب عسكري. بل لم يكن يهمني ذلك، كل ما همني وقتها فواصل الإثارة والتشويق في المذياع القديم؛ “بيان هام للقوات المسلحة بعد قليل ترقبوه : أيها الشعب السوداني البطل… إلخ”. حتى قبض روح الدهشة الروائي الطيب صالح بسؤالة الشهير، وبعيد أن تفحص بخيال أدبي حالة الاندفاع الثوري والتمكين الأولى، فطفق يردد: “من أين جاء هؤلاء؟”.
لم يكن أحد بالطبع يملك إجابة على سؤال الطيب صالح الاستنكاري، ولربما لو استدركت الجبهة الاسلامية في نهاية المطاف لإجابته، وعلى طريقة غوتة: “أنا جزء من تلك القوة التي تريد الخير دائماً، لكنها تقترف دائماً الشر”.
مرت الأيام ولا أعرف كيف مرت، لأنني بطبعي لا أعد السنوات، ولا أقول إن التقدم في السن أمرٌ هين، لقد كبرت وملايين الشباب تحت وطأة هذا الواقع الأليم، دون أن نفعل شيئاً نتباهى به، ومع ذلك لم أعد أثق ﺑﻤﺎ ﻳﻌﺘﺒﺮ ﻣﺜﻼ ﺃﻋﻠﻰ، أثق ﻓﻘﻂ بحواسي وعقلي المتعب، وبالقدر نفسه لم يعد ثمة خبر يدهشني لأن ﻛﻞ ﺍﻷﺣﺪﺍﺙ ﺍﻟﻤﻬﻤﺔ تشعر بأنها ﺳﺒﻖ ﻭﺃﻥ ﺣﺼﻠﺖ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺒﻠﺪ.
بدأت الثورة بفتح المعسكرات لمقابلة احتياجات المجهود الحربي، وانفجرت بصورة موازية ثقافة أعراس الشهداء والأدب الجهادي، حتى أن التلفزيون القومي تحول إلى وحدة غير منفصلة عن التوجيه المعنوي، وإن لكم تكن راغباً في التطوع للقتال، سوف تلتحق لا محالة بالواجب الوطني “عزة السودان” بعد الثانوية العامة، ولعل تجييش الشارع والشعارات الكبيرة طبعت في ذاكرتنا فكرة جميلة عن “الثورة الملتحية”، والتي كانت تراهن على إحداث تغيير شامل يقود العالم أجمع.
أذكر أن صوت العميد عمر البشير كان مرتبكاً في البيان الأول، تقريباً، وتخاله ذلك الصوت المختنق في برميل فارغ، يتردد صداه بشدة في القرى والنجوع. حتى وهو يتنقل بخفة في الرتب من عقيد إلى مشير، بينما انتهى بي الحال صحفياً مولعاً بمطاردة الحقائق، غالباً ما تأخذ الأشياء الحكومية عنده منحى سالباً، ولا يضيرني أيضاً أن أعبر عن شعوري بالضياع والضجر وخيبة الأمل جراء هذا العرض المتكرر عاماً إثر عام.
30 عامًا كثيرة على أي شخص يحلم بالتغيير، ولذا عندما أتيحت لي فرصة التصويت في الانتخابات قبل الماضية، وجدت في قائمة المرشحين للرئاسة مرشح يسمى محمود حجا، فقلت في سري إن هذه البلاد تستحق أن يحكمها جحا، ليس لأنه صاحب برنامج بديع، ولكن من فرط العجائب والكوميديا السوداء، شعرت بأنه ينقصنا فقط أن يعتلي سدة الرئاسة جحا، لا كما هو في قائمة المرشحين، وإنما ذلك الشخص الفكاهي القابع في ذاكرة الأدب العربي، لنضحك قليلاً إذن.
رفع الانقلاب المكنى بثورة الإنقاذ الوطني شعارات على شاكلة “ناكل مما نزرع، ونلبس ما نصنع وحا نسود العالم أجمع”. وكانت شعارات على ما يبدو تنبع من ثقة مطلقة بالنفس ويقين بأن الله ناصرهم، في حين انقض العالم كله عليهم دفعة واحدة، بعد أن شعر بخطورتهم كأول تنظيم إسلامي في العالم السني يصل إلى سُدة السُلطة، ولذا جرب في مكافحتهم كل أساليب الحصار والاختراق، وجربوا في مقاومته كل اساليب المناورة حتى انتهى الحال بالنظام الحاكم إلى حيرة وجودية، وفقدان للبوصلة السياسية، عوضاً عن انفصال الجنوب كخيار قاسٍ تقلصت بموجبه خارطة البلاد، فأضحت بشكلها الحالي “كأحشاء البقرة المتهدلة”.
بعد 30 عاماً بدأ الرهق يظهر عليهم جميعهم، كما لو أنه ليس لديهم مشروع واضح، خصوصاً عقب رحيل الملهم الأزلي للتجربة الشيخ حسن الترابي، وتلك لعنة الانقلاب على ما يبدو، فلا يعقل أن يكون لديك تنظيم بكل هذه القوة البشرية والمالية ومع ذلك تتقدم للسلطة من وراء دبابة، وتتمسك بها للأبد، فماذا ستجني منها أكثر من أن تجلب لك المتاعب والسمعة المنفرة؟
ولعل أهم ما جرى بعد سنوات قليلة داخل الحركة الإسلامية، ما عرف بالمفاصلة، والتي شطرتهم إلى نصفيين، وقرر الشيخ الترابي الخروج وتأسيس حزب جديد في محاولة للتكفير عن الانقلاب وتبعاته، ومع ذلك ثمة من يعتقد أن المفاصلة بين الترابي والبشير كانت مجرد مسرحية، غُيبت فيها القواعد حتى لا تفشي السر، وتمثلت الفلسفة في أن تتقاسم الحركة الإسلامية شقي الرحى؛ الحكومة والمعارضة، أما المبالغة في الصدام والعنف فقصد من ورائها صرف أنظار المتشككين عن حقيقة ما يجري داخل الغرف المغلقة، وأنّه على الترابي -حتى لا تحترق كل مراكبه – أن يفتعل أسباب الصراع، ويغالب شهوة السلطة، فيبدو غريماً لها في عيون المجتمع الدولي، وفي نفس الوقت يحتفظ بكلمة السر في أعماقه، وهي الرواية الأقرب إلى مزاج قوى المعارضة، لا سيما وأنه من عوامل نجاح العمل الدرامي، الحبكة الجيدة التي تتطلب كثيرًا من اﻹجراءات التعسفية ضد الآخر حتى يكون اﻹخراج جيداً ومقنعاً للحد البعيد، وإن كان الأمر كذلك فقد قدر لهذه الرواية أن تختبر مقولة المفكر العربي عزمي بشارة: “ليس في السياسة تمثيل، السياسة هي الدور الذي تقوم به”.
المثير في الأمر أن الإنقاذ لم تعد تحفل بالذكرى السنوية لعيدها، وهي التي كانت إلى وقت قريب تحشد كل آلتها الإعلامية، وتستعرض من داخل الساحة الخضراء وسط الخرطوم، إنجازاتها العسكرية والسياسية، وكان هذا اليوم تحديداً أقرب إلى مناسبة وطنية صاخبة.
أما الآن، بالكاد يتذكر الرئيس البشير ساعة الصفر والبيان الأول، وهذا يعني، أن الحزب الحاكم يحاول الهروب للأمام والتنكر لصورته الأولى، كما أن دافع الانقلاب نفسه يعصم الحياء من الإشارة إليه، إن لم تكن ثمة مبالغة، فأصبح النظام يتمسك بالانتخابات كل خمسة أعوام لاكتساب شرعية جديدة،
أما سؤال المقال أعلاه، وإذا أعيد طرحه لأي من رجالات الدولة: لماذا قمنا بالثورة؟ فلا أحد بالطبع يملك إجابة، ولربما يجيب على سبيل السخرية: “نحن في الحقيقة لا نعرف لماذا قمنا بالثورة”!
بقلم
عزمي عبد الرازق