الحكمة سودانية

قبل فترة قريبة لم يكن حتى أكثر المتفائلين يتصور أن الخرطوم ستكون حاضرة لكفكفة دموع شعب جنوب السودان وحقن دمائهم، ليس لأن الخرطوم عاجزة أو غير راغبة، وإنما لشيء في نفوس القادة الجنوبيين جعلهم ينفرون من مجرد الفكرة ويعتقدون أن الحل لا تؤدي طرقه المتعددة إلى الخرطوم على الإطلاق، ولم تكن (الإيقاد) نفسها التي اختارت العاصمة السودانية لتكون منبراً للتفاوض الجنوبي، تثق بالكامل في قبول الجنوبيين السودان منصةً للتفاوض والتفاهم ثم الاتفاق.

> هناك رياح عاتية متعددة عصفت ثم راحت، ومياه كثيرة مرت تحت الجسور، وفي نهاية الأمر وجد الجميع أن في الخرطوم بصيص أمل، أكثر من أروشا في تنزانيا وأديس أبابا في إثيوبيا ومنفى زعيم المتمردين في جنوب إفريقيا، وتقاذفت قضية الحرب في جنوب السودان أيادٍ وأرجل في الفضاء الإفريقي العريض، لكن فوهات البنادق في أرض جنوب السودان لم تصمت، والحريق التهم الأخضر واليابس، وأرواح أُزهقت ولاجئون تفرقوا أيدي سبأ في دول الجوار، ونازحون زحفوا إلى جوبا وضاقت عليهم الأرض بما رحبت.

> وتعاملت الحكومة السودانية بمسؤولية واحترام كبير بمحيطها الإقليمي، فوضعت مبادرتها بين يدي هيئة (الإيقاد) واختارت الأخيرة في قمتها الأسبوع الماضي بأديس أبابا حضن الخرطوم ليلتقي فيه الفرقاء الجنوبيون، وقدم البشير الدعوة للرئيس اليوغندي يوري موسيفيني ليكون حضوراً وشاهداً على انطلاقة العمل من أجل الاستقرار والسلام في جنوب السودان، ومعروف ماذا تعني كمبالا ويوري موسيفيني وأهمية وجوده ودوره، فهي الدولة الوحيدة في جوار جنوب السودان التي تدخلت عسكرياً وساندت حكومة الرئيس سلفا كير وقاتل الجيش اليوغندي معه ضد الفصائل المتمردة، وبجانب يوغندا ورئيسها كانت بقية دول (الإيقاد) عبر ممثليها داخل إطار الصورة وليس خارجها، ولم تغب جهات دولية وفي الإقليم عما شهدته الخرطوم أول من أمس، وهو بحق من أعظم ما قامت به الدولة السودانية لتضميد الجرح الإفريقي النازف في جنوب السودان.

> لماذا إذن يعتقد المراقبون ومتابعو الشأن الجنوبي، أن مفاوضات الخرطوم الحالية بعد العمل المكثف الذي قاده الرئيس البشير أول من أمس مع الرئيسين سلفا كير وموسفيني، ستنجح في نزع فتيل الخلاف وستصل إلى حل نهائي بين الأطراف المختلفة في جنوب السودان، وستتمكن من وضع حد للحرب المجنونة المستعرة دون توقف.. لقد بدأت المفاوضات من مستواها الرئاسي الأعلى إلى اللجان الأخرى بصراحة ووضوح وحرص، فالفرقاء الجنوبيون يعلمون دلالة المكان فالخرطوم ليست أي مكان آخر، فهي تفهم المشكل الجنوبي وتعرف أبعاده وظروفه ومناخه وطقسه وتضاريسه، وتعرف ما يمكن فعله من أجل التهدئة وبناء الثقة وإيقاف القتال، وتمتلك المعلومات بما يكفي للتوفيق بين الأطراف الحكومية والمعارضة، وفوق ذلك ليست لدى الخرطوم أية مصلحة غير الاستقرار والسلام، لأن ذلك فيه منفعة لكل الأطراف، ويستفيد السودان منه في صناعة السلام والطمأنينة وحل كل المشكلات الأخرى التي فاقمها الصراع الجنوبي ــ الجنوبي.

> وواضح أيضاً هذه المرة أن هناك تحضيراً جيداً وتصورات واضحة وجلسات عمل دؤوبة وفرقاً لتسهيل التفاوض معتمدة على مرجعيات (الإيقاد) والاتفاقيات السابقة، وعلى ما تم في اتفاقية السلام الشاملة في السودان التي كان قيام دولة الجنوب من ثمراتها، فالترتيبات الأمنية وكيفية اقتسام السلطة والثروة والتعريف الجيد للأزمة الجنوبية والاتفاق على أسبابها وكيفية تجاوزها هو المدخل الصحيح والوحيد الذي جعل كل الطرق تؤدي للخرطوم، ومنها ينداح السلام ويستفيد منه الإقليم كله.. فالحكمة اليوم سودانية.

الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة

Exit mobile version