-1- في بداية التسعينيَّات، كانت الأستاذة سعاد، وهي من أصولٍ مصرية، طريحةَ الفراش (الأغبش)، بمستشفى المناقل، لم يكن لها أهلٌ أو أقاربُ بالمدينة، توفِّي زوجها الأستاذ بمعهد القرآن الكريم، وانقطعت صلتُها بأهلها في مصر. مرضَتْ في تلك السنوات قبل العيد بأيام، ودخلت في غيبوبة.
في يوم العيد، كانت سعاد وحدها بالعنبر، غادر المرضى وغاب المُمرِّضون، تزامن ذلك مع تعرُّض المدينة لغزوٍ مُكثَّفٍ من الفئران.
-2-
الفئران نهشت أقدام سعاد الغائبة عن الوعي، والمُهملة في عنبرٍ بائسٍ ومعزول. وحينما حضر الممرضون وجدوا ذلك المشهد المُرعب!
هي أيَّامٌ فقط، وغادرت سعاد الحياة، ولا بواكي عليها.
كنتُ وقتها في مُستهلِّ دراستي الجامعية، وحديثَ عهدٍ بالخرطوم، هزَّني وأوجعني ما حدث. كتبتُ مقالاً دامعاً عن الواقعة المأساوية، وأرسلتُ رسالةً عبر المقال للمسؤولين، ذهبَتْ إلى صحيفتَي الإنقاذ والسودان الحديث. تعذَّر النشر، في الأخير قال لي سكرتير التحرير بصحيفة الإنقاذ، الأستاذ سليم عثمان: (لا يُمكننا نشرُ هذه الحادثة البشعة، سنُؤذي مشاعر القُرَّاء).
-3-
ذهبتُ إلى الإذاعة القومية، لمُقابلة الراحل المُقيم حامد عبد الرؤوف، وكان حينها، يُقدِّم برنامجاً خدمياً ذائع الصيت (إيقاع الحياة).. استمع إلى باهتمامٍ وتعامل معي بلُطف، وسجَّل القصة وبثَّها عبر برنامجه.
حينها شعرتُ أن سعاد، ضحية الإهمال واللامبالاة، سترتاح في قبرها، وأن المسؤولين عن التقصير سيلقون الجزاء والعقاب!
بعد أكثر من عشرين عاماً، نشَرَ الزميل هاشم عبد الفتاح، تحقيقاً أثار ضجَّةً واسعةً عن اعتداء الفئران على المرضى بمُستشفى المناقل.
-4-
تذكَّرْتُ ذلك أثناء مُتابعتي تداعياتِ الصور التي التقطها مواطنٌ بكاميرا الموبايل، لأوضاع مُزْريةٍ بمُستشفى بحري إبَّان إيام العيد، ونَشَرَها عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
لو كنتُ مكان وزير الصحة بولاية الخرطوم، بروفيسور مأمون حميدة، لدَعْوتُ المُواطن إلى مكتبي، وشكرته على صنيعه ذلك، تحت شعار: (رحم الله امرأ أهدى إلينا عيوباً لم نكن نراها).
وربما كان البروف سيمضي في هذا الاتجاه (الاعتراف والإصلاح)، حينما أقرَّ بواقعة بقاء جثَّة ميت لساعاتٍ طوالٍ بين المرضى.
للأسف (المبرّراتية والمثلّجاتية) قطعوا عليه الطريق، وسارعوا لنسج بيان (عنكبوتي) واهن، بحُججٍ واهيةٍ تُؤكِّد الإدانة ولا تنفيها، تكشف الحال ولا تستر عورة الموقف.
-5-
ليتهم اكتفوا بذلك، بل هرعوا للهروب إلى الأمام، عبر فتح بلاغٍ في صاحب الراوية المُوثَّقة بالصُّور.
لو كانوا أذكياء لقدَّموا قليلاً من الاعترافات، وكذّبوا بقية الرواية، لتركوا الناس بين مُصدِّق ومُكذِّب ومُشكِّك.
مع كُلِّ ذلك، الصور وحدها تكفي لإدانتهم بالإهمال، دعك من نصِّ الرواية المحروسة بالشهود.
النفي المُطلق والتَّبرير المُتعسِّف، وتحميل المسؤولية للشرطة، وإشانة سمعة المريض باتهامه بالسُّكْر، كُلُّ ذلك تجاوزات أخلاقية، لا تليق بالمؤسسات المحترمة والسلوك القويم لقيادة مهنة إنسانية.
-6-
قناعتي أن دكتور مأمون يبذل جهداً مُقدَّراً، لتطوير وتحديث الخدمات الصحية، وإذا كان هناك إهمالٌ وتردٍّ في مرفقٍ صحيٍّ حكومي، فعليه الإسراع بالإصلاح والتقويم، لا بالإنكار والتبرير والمُلاحقات القضائية العابثة.
الغريب أن البيان التَّبريريَّ حاول تصوير الوضع الشاذِّ بأنه وضعٌ طبيعيٌّ ومثالي!
بقاء جُثَّة ميت داخل عنبرٍ بين المرضى، لأكثر من ثماني ساعاتٍ (أمرٌ طبيعي)!
بقاء مريض على الأرض لساعات (عاديٌّ جدَّاً)!
وجود دماءٍ وقطَعٍ مُلوَّثةٍ على حوض (ما فيها حاجة)!
-7-
خلاصة مرافعة دفاع الوزارة:
لا نعترف بأيِّ خطأ، ولا نُقِرُّ بالتقصير في أيِّ جانب. عبء المسؤولية يقع على الشرطة وعلى من قام بالتصوير!!
-ختاماً-
لا أحد يُطالب بروف مأمون بأن تُصبح مستشفيات الخرطوم بمستوى “الزيتونة” و”يستبشرون”؛ لكن على الأقلّ أن يكون هناك فرقٌ في مستشفيات الحكومة، بين المريض والميت، وبين السرير والبلاط، وحوض المرضى وحوض الأطباء، وبين غياب الطبيب ووجوده!
نعم، نحن نستحقُّ أكثر من ذلك، لكن يكفينا ذلك منكم!
بقلم
ضياء الدين بلال