كانت أياماً رائعات أصررنا، رغم رهق الحياة وكدرها ومنغّصاتها، على أن نتنسّم خلالها دعاش العيد المخلوط ببعض زخات المطر والمفعم بدفء الأحضان السودانية وبالتهليل والتكبير والتحميد.. عيد أعقب أيامًا سمت فيها أرواحنا أو كادت وتضاءل نداء المادة التي ما فتئت السياسة تشدنا إلى أحابيلها المُهلكة.
ولكن هل من مفر من (ساس يسوس) التي انغمسنا في مستنقعها الآسن منذ أيام الشباب الباكر، ولم نُحسن الخلاص أو الفكاك من قيدها القاهر؟
كنا في آخر أيام العيد قد عبّرنا عن خوف من مآلات الوضع الاقتصادي الذي بلغ تردّيه درجة أن تُمسك البنوك، لأول مرة في تاريخ السودان منذ الاستقلال، أموال المودعين، وللأسف فإن الحسرة الأكبر من هذا التصرف تكمُن في انهيار الثقة في النظام المصرفي فحتى لو انصلح الاقتصاد لن تعود تلك الثقة المفقودة إلا بجهد خارق وخلال فترة قد تطول.
أعود لأقول، والحسرة تملك أقطار نفسي ، إنه لا أمل في حلٍّ وشيك للضائقة بعد أن تمنع المعسكران العربيان المتخاصمان اللذان تقودهما السعودية وقطر عن تقديم أي وديعة دولارية تسند بنك السودان وتحرك جمود اقتصادنا المتعثر .
لذلك سأصرف النظر عن الحديث عن دعم خارجي بعد أن تنكّر القريب والبعيد، كما سأكف عن ترديد ندائي بالتخلي عن المواقف الضبابية التي لم تُسعد أياً من الطرفين (المتناقرين) اللذين لم يرضهما ذلك الموقف الوسطي لأطرح بدائل أخرى .
ذلك الخيار الوحيد، بعد أن ضاقت بنا السبل الأخرى، يعتمد أولاً وأخيراً على الرئيس البشير وعلى رئيس الوزراء بكري حسن صالح، فإما أن يقودا سفينة الاقتصاد إلى بر الأمان وإما الطوفان الذي أراه يتربّص بنا وببلادنا، وأخشى أن يغمرنا بفوضى واضطراب لا يُبقي ولا يذر .
أقصر الطرق لتحقيق ما أحجم العالم عن مد يده إلينا لإنهاء الضائقة الاقتصادية التي تُمسك بخناقنا يتمثّل في الحصول على العملة الأجنبية لاستعدال ميزان المدفوعات من خلال تعظيم الصادرات لكن قبل ذلك وقبل أن أخوض في الأمر يتعين على ولاة الأمر إصلاح البيئة الاقتصادية بمعالجات فورية طال انتظارها تستهدف استئصال الفساد من جذوره سيما وأن الدولة ظلت تطرح شعار الإصلاح المؤسسي منذ سنوات.
القضاء على الفساد لا يتأتّى إلا من خلال إصلاحات هيكلية صارمة تُنهي إمبراطورية مراكز القوى التي ظلت تسرح وتمرح مستقوية بسلطان الدولة.
بُحّت أصواتنا، ونحن نتحدث عن أن هناك بعض الوزارات والأجهزة تفعل ما تشاء وهي فوق المساءلة والمحاسبة، بل هي فوق الدستور والقانون فهي لا تجوع ولا تعرى كما يحدث لبقية مرافق الدولة، بل إنها تملك الأموال القارونية التي تفيض عن حاجتها مما نراه من خلال عشرات وربما مئات المليارات التي تجود بها تبرعاً على الجهات الأخرى المُعدمة في وقت يجلس تلاميذ مرحلة الأساس على الأرض وفي فصول من القش وتعاني بلادنا بل عاصمتنا من ضعف مريع في الخدمات الأساسية التي يحتاج إليها المواطن.
هل يستطيع أحد أن يُجيب عن السؤال: لماذا يُكتَب مقابل إيرادات بعض الوزارات والأجهزة القوية (صفر)، بل لماذا تمتلك كل منها عشرات الشركات الحكومية التي تتمتع بالحماية ولا ولاية لوزارة المالية عليها رغم أنف القانون ورغم اللجنة (المضطهدة) التي أنشئت قبل أكثر من عشرين عاماً للتخلص من مرافق القطاع العام ورغم ذلك زادت تلك الشركات الحكومية ولم تنقص أو يتخلّص منها؟!
أخي الرئيس .. أخي رئيس الوزراء.. يتعيّن عليكما أن تجيبا.. من يحمي هذه الجهات التي تتجاوز الدستور والقانون؟!
لماذا تُغَل يد المراجع العام عن الوصول إلى (الأقوياء) الذين يفعلون ما يريدون بلا رقيب ولا حسيب، بل لماذا لا يخضع الجميع لسلطان القانون دون تمييز ؟!
قانون الشفافية ومكافحة الفساد صدر من المجلس الوطني في يناير 2016 أي قبل سنتين ونصف، ولم تُكوّن مفوضية مكافحة الفساد! .. هل يعني ذلك أن الحكومة لا ترغب في مكافحة الفساد من خلال تجاهل ذلك القانون الساري رغم الحديث المتكرر عن مكافحة الفساد؟
أقول إنه قبل أن نتحدث عن أي معالجات إيجابية حول زيادة الإنتاج أو تعظيم الفائدة من الموارد الأخرى ينبغي أن تُهيّأ البيئة والمناخ اللازم لتعافي الاقتصاد من خلال تضييق منافذ الفساد بحيث يتساوى الجميع أمام القانون وتُنهى إمبراطوريات مراكز القوى بما في ذلك الشركات الحكومية التي ضيّقت الخناق على القطاع الخاص وعوّقت الاستثمار .
ثم يأتي الحديث عن ترشيد أو خفض إنفاق الدولة مما سأتعرّض له غداً إن شاء الله.
الطيب مصطفى
صحيفة الصيحة