سل صيامك .. هذا ما فعله “ولد الغني حين افتقر”

هل قابلت صديق سوء جعلك تخسر مالا وأخلاقا ؟ وهل خسارة ثروة تعني هي نهاية الحياة لك ؟ إلى من تلجأ لطلب النصيحة ومن تقصد للمساعدة؟ كثيرة هي الدروس والعبر في ” سالفة ولد الغني الذي افتقر ” التي ترويها الجدة، ويقدمها الكاتب وجامع الحكايات السعودي عبد الكريم الجهيمان في كتابه “أساطير شعبية من قلب جزيرة العرب”، وربما الدرس الأهم، مهما فشلت وخسرت، الفرصة متاحة لتبدأ من جديد.

“سالفة ولد الغني الذي افتقر”

إبن وحيد

وجاء الليل وتجمع الأطفال حول جدتهم وقال لها أحدهم، قصي علينا قصة ولد الغني الذي افتقر، فقالت الجدة: حبا وكرامة، هنا هاك الواحد والواحد الله في سماه العالي وإلى هنا هاك الرجال الذي أعطاه الله وأغناه، ورزقه تجارة رابحة، وأعطاه مالا واسعا، إلا أنه لم يرزق بولد، وحز هذا في نفسه، والتمس العلاج عند كل طبيب، حتى وفق بعد جهد جهيد إلى طبيب ماهر عالجه مدة طويلة، رزق على أثرها ولدا سماه باسم والده، ورباه تربية المدلل المشفق فهو وحيده ووريثه وحامل اسمه من بعده.

ولهذا فقد عاش الولد في أحضان العطف والنعيم والترف المفرط بحيث لا ترد له كلمة، ولا يرفض له طلب، ولا يكدر له خاطر، في أي حالة من الحالات وكان والده يفعل هذا كله بدافع الحنان والشفقة والحب.

موت الأب

وتتابعت الأيام وتوفي الوالد وخلف ثروة طائلة من ثابت ومنقول لولده الوحيد الذي تملك الثروة العظيمة التي نماها والده، بواسطة حانوت كان يبيع فيه ويشتري ويتصل بالتجار والأسواق إتصالا مباشرا، إلا أن الولد خالف هذه القاعدة، فقد التف عليه قرناء السوء وزينوا له أول ما زينوا أن يقفل حانوت والده وأن لا يتعب نفسه في بيع وشراء لا حاجة له إليه!! فإن لديه من الثروة ما يكفيه ويكفي أولاده من بعده، وراقت له الفكرة فنفذها، وأحاط الفراغ والثروة بحياة الشاب وبدأ قرناء السوء يجرونه إلى ألوان من الحياة طربة ومسلية، ولا عهد للشاب بها في حياة والده!

أصدقاء السوء

لذت له هذه الحياة فاندفع فيها إندفاعا أهوج، وصار ينفق ثروته باليمين وبالشمال، وقرناء السوء يزينون له هذا الصنيع ويدفعونه اليه، ويحفون به من كل جانب فيتمتعون على حسابه ويأخذون من ثروته كل ما يستطيعون أخذه، ويقضون معه أوقاتا لا قيمة لها لديهم، لأنهم عاطلون من العمل، ولأنهم جربوا حظهم في الحياة فكان الإخفاق نصيبهم!!

وكانت والدة الشاب ترى هذا الطريق المخوف الذي اندفع فيه ولدها فتنصحه ما بين الفينة والفينة، لكنه سادر لا يرعوي لقول ناصح، ولا يلتفت لإرشاد مشفق، ولا يستفيد من تجربة مجرب، فهو في سكر مطبق من كل الجهات! بسكر الشباب وسكر الثروة وسكر الحرية فليس فوق يده إلا يد الله، وشعرت الوالدة بالحالة التي يعيش فيها ولدها، لكن العين بصيرة واليد قصيرة، فهي لا تقوى على منعه بالقوة، وهو لا يتأثر بإرشاداتها ونصائحها، ولهذا يئست والدته من إصلاحه وتركت أمره للأقدار، لعلها تصدمه صدمة عنيفة تعيد إليه عقله.

خسر ثروته

لكن الأمور سارت على وتيرة واحدة، واستمر الشاب على طريقته، واستمرأها وألفها واتسعت النفقات، وتعددت النفقات والطلبات، وقرناء السوء يزينون له ما هو عليه، ويدفعونه إلى المزيد بطرق لا يكاد الشاب يشعر بمغبتها، ونفد المال المنقول، وكاد أن يتوقف ويقتصد، لكن البطانة التي تحف به زينت له أن يبيع أحد البيوت لينفق من ثمنه، فالأملاك كثيرة وثمينة، ولا يليق بالمرء أن يقتر على نفسه ولديه كل هذه الثروات، وتبدد المال بأسرع مما كان يتصور، ثم باع البيت الثاني والثالث والرابع.

لم يبق إلا البيت الذي يسكنه هو ووالدته، وكاد أن يبيعه لولا أن والدته وقفت موقفا صامدا وصدته عما أراد وبقى الشاب بلا نقود، فتفرق عنه أصحابه، ولم يبق بجانبه أحد منهم، وبحث عنهم فلم يجدهم، وعندئذ عرف ما كان يحيط به من مكر وخداع ونفاق، ولكن هذه المعرفة جاءت بعد فوات الأوان.

نصيحة الأم

ولم يبق له صديق ولا ناصح إلا أمه فعاد إليها وأرتمي في أحضانها ولازمها وطلب رأيها ومشورتها بعد أن نفد ما في يده وانسدت الأبواب في وجهه، وضاقت به الدنيا وضاق بها، وفكرت والدته مليا ثم قالت له: يا ولدي إنني أعرف صديقا لوالدك اسمه كذا، وبلده كذا، فعليك أن ترتحل اليه وأن تحل عليه ضيفا، وأن تخبره باسمك وتشرح له وضعك وتسترشد برأيه، وأن تكل له أمرك بعد الله.

أخذ الشاب بنصيحة والدته وسافر، صار يتنقل من بلد إلى بلد حتى وصل إلى البلد المطلوب، فسأل عن بيت الرجل حتى عرفه وأناخ راحلته ببابه، وقال للبواب إنني قادم من بعيد وضيف لصاحب هذه الدار، رحب به الحارس وهلا، وأدخل راحلته وقدم لها العلف، وأدخل الضيف وقدم له القهوة والتمر واللبن، وخصص له مكانا للنوم والراحة، وعرفهم الشاب بنفسه وقال إني قادم من بلدي قاصدا فلانا لأسلم عليه، فهو صديق والدي رحمه الله، وله علي حقوق التبجيل والتوقير، فرحبوا به أيضا ثم عرفوا سيدهم عن هذا القادم الجديد، فعرفه وعرف والده، وقال لهم : أكرموا هذا الشاب وقدموا له كل ما يضمن راحته.

دع الماضي وانظر إلى المستقبل

والتقى الشاب بصديق والده، وشرح الشاب وضعه وقال: إن والدي توفي وأنا صغير غرير، وليست لدي أية تجربة ولا خبرة بهذه الدنيا وأهلها، وقدر الله علي أن أندفع في طرق ملتوية أودت بمال والدي الثابت والمنقول، وبقيت بلا شيء، فجئت إليك بنصيحة أمي لآخذ رأيك فيما قدر علي وحل بي من الفقر والحاجة.

فلم يعاتبه الرجل لأنه فات أوان العتاب، ولم يدل إليه بأي نصيحة، لأنه رأى الشاب قد استفاد من تجربته، وشعر بالخطأ، وإن لم يقل هذا صراحة، إلا أن إشارات الندم واليقظة تظهر من كلامه.

قال التاجر للشاب: لم يحصل إلا الخير إن شاء الله، ولم يضع من مالك ما وعظك، فدع الماضي وانظر إلى المستقبل، وكن واثقا بنفسك معتمدا عليها بعد الله.

عمل ونجاح

ترك التاجر هذا الشاب أياما لا يقابله ولا يراه ولا يكلفه بأي عمل، وبعد هذه الفترة أسند إلى الشاب عملا بسيطا وبراتب بسيط أيضا، فتقبله الشاب وفرح به وقام به خير قيام، واستمر في عمله هذا جادا مخلصا مثابرا، وكان يقبض راتبه الشهري فيبعث نصفه إلى والدته، ونصفه الآخر ينفق منه بعض ما يحتاجه ويوفر الباقي، ورأى التاجر جد الشاب وإخلاصه، فرفع رتبته وراتبه.

وازداد الشاب نشاطا وحيوية وثقة بنفسه، وتفانيا في خدمة هذا التاجر الذي انتشله من وهدة الفاقة والفشل والكسل إلى ذرى الجد والنشاط والعمل والأمل، ورأى التاجر من هذا الشاب ما جعله يثق به ويطمئن إليه فجعله رئيسا أعلى لجميع شؤونه التجارية والمنزلية ورفع راتبه أضعافا، فتحمل الشاب مسؤوليته الجديدة بكل أمانة وجد وإخلاص.

وكان التاجر قد كبر سنه ورق عظمه، فارتاح لتحمل الشاب جميع هذه المسؤوليات، كما ارتاح إلى اخلاص الشاب وسداد رأيه وحسن تصريفه للأمور.

مفاجأة السفر

ومضى الشاب على حالته هذه فترة جمع فيها مبلغا من المال لا يستهان به، واشتاق إلى والدته وإلى وطنه، فأحب أن يسافر، وفاتح التاجر في الأمر، وكانت مفاجأة غير سارة ، لأن التاجر كان يعتمد على الشاب ويثق به ثقة لا حد لها، وقد تجمعت كل الأمور في يديه، فكيف يذهب ويترك هذه المسؤوليات ولمن يتركها؟ ومن يستطيع أن يتحمل أعباءها؟ قال التاجر للشاب: استمر في عملك حتى نبحث عن شخص يقوم مقامك، فلبى الشاب هذه الرغبة، واستمر في عمله جادا مخلصا، منميا لثروة هذا التاجر، حريصا على حمايتها من كل ما يضر بها.

كيف حافظ التاجر على الشاب؟

فكر التاجر في أمر يربط به هذا الشاب اليه، ويجعله يبقى في عمله، فوجد الوسيلة وهي أن يزوجه ابنته، ويجعله شريكا له في تجارته، ولا شيء غير هذه الطريقة.

وفي يوم من الأيام دعا التاجر ذلك الشاب، وزف اليه الخبر، وقال له: إذهب إلى وطنك فأقم فيه ما طابت لك الإقامة، ثم هيئ نفسك ووالدتك إلى المجيء إلى هنا والإقامة الدائمة في بيتك وبين أهلك وذويك، فبهت الشاب لهذا العرض المغري الذي ما كان يخطر على باله في الأحلام، والتمس العبارات المناسبة التي يمكن أن يوجهها إلى التاجر في هذه المناسبة السعيدة، فلم يجد شيئا يتناسب مع عواطف الفرحة والإبتهاج التي ملأت صدره! وكل ما استطاعه هو أن يقوم ويقبل رأس هذا التاجر، وأن يقول له: شكرا يا سيدي على تفضلك علي بهذه القربى، فقال التاجر: إنني أعتبر أبناء والدك كأبنائي وقد كنا قابلناك بشيء من الجفاء والغلظة أولا، لا للإساءة اليك ولكن لتربيتك ولمصلحتك، وقد آتت هذه الطريقة ثمارها، فصرتا شابا عاملا ذكيا واعيا، وأرشحك الآن لأن تكون شريكي وخليفتي في تجارتي وأموالي وعلى أهلي وولدي، فاذهب إلى والدتك وعد إلينا سريعا.

فرحة الأم

فأعد الشاب عدته وسافر إلى والدته بكثير من الهدايا والتحف والأثواب، وفرحت والدته بقدومه، ثم قص عليها قصته وأخبرها بالعرض الذي عرضه عليه التاجر صديق والده، فرحت الأم فرحا غامرا، ورأت أن الحظ قد ابتسم لولدها بعد أن تنكر له دهره، وتنكر له أصحابه، وبقى بلا مال ولا جاه ولا خبرة في الحياة، وسعدت الأم بنجاح ولدها وجاشت العواطف في صدرها فقبلت رأس ولدها، وجرت دموع الفرح مدرارا على خديها.

وجعلت الوالدة وولدها يعدان أنفسهما للرحيل إلى جوار ذلك التاجر الشهم الذي انتشلهم من وهدة العوز والحاجة إلى ذرى السعادة والمال والثراء.

نهاية سعيدة

وسمع التاجر بقرب قدومهما فأعد لهما إستقبالا حافلا اشترك فيه كبار أهل البلد، وعقد الزواج بعد قدوم الشاب بيوم أو يومين، وأقيمت الاحتفالات وعمت الأفراح وصار الشاب في منزلة رفيعة ومكان مرموق، ينظر إليه الكل نظرة اجلال واحترام، وعرف مكانه بين سكان هذه المدينة، فكان مثال المواطن الكامل كرما وأخلاقا وحسن سمت، وأخذ بيد الضعيف ومجاملة لكل قاصد وقضاء حق كل ذي حق، فاشتهر الشاب بجميع الخلال الحميدة التي يمكن أن يتحلى بها إنسان، وعاش بقية حياته أسعد مما عاش أولها، وكملت وحملت وفي أصيبع الصغير دملت!

صحيفة المواطن

Exit mobile version