ظلت ولاية الخرطوم تشكو من الآثار السالبة للهجرة الداخلية وجيوش النازحين التي لا تطرق أبوابها.. بل تلوذ بها بغتة وتحاصر الولاية من أطراف كتل بشرية قذفت بها الأطراف إلى الخرطوم بحثاً عن لقمة العيش وعن الأمن والطمأنينة والتعليم والصحة.. وتبعاً لذلك تمددت ولاية الخرطوم وتضاعف عدد سكانها.. وعجزت إدارتها عن تقديم خدمات تليق بإنسانها بسبب موجات النزوح اليومية.. وخلال زيارة الرئيس الأخيرة نعم زيارته لولاية الخرطوم وترؤسه اجتماع مجلس وزراء الولاية جأر الفريق أول “عبد الرحيم محمد حسين” بالشكوى من كثافة النازحين وطالبت الحكومة المركزية بتقديم الدعم المالي لولاية الخرطوم التي كانت حتى عهد قريب من الولايات (المكتفية) ذاتياً.. وتقديم الدعم للآخرين ولا تنتظر أن يقدم إليها.. عوناً مالياً لضخامة الإيرادات الذاتية وحجم الاستثمارات داخلها.. وظل الجنرال “عبد الرحيم محمد حسين” كثير الشكوى من استضافة ولايته للنازحين باعتبارها مهدداً أمنياً واجتماعياً.. ويتغولون على أراضي الدولة ويتخذونها مستوطنات سكانية وإن تمدد العاصمة شمالاً وغرباً وشرقاً وجنوباً بسبب الهجرات المتتالية للنازحين.. وقد كتب الدكتور “أحمد علي سبيل” بحثاً نال به درجة الماجستير من جامعة أفريقيا العالمية عن التغيرات السكانية في ولاية الخرطوم وأثارها السياسية والاجتماعية.. والدراسة لم تجد حظها من الضوء إشارة لتنبؤات مهمة في سياق انصهار اللاجئين القادمين من الهضبة الأثيوبية والقرن الأفريقي بصفة خاصة في مجتمع الخرطوم ،رغم إن غالبهم من المسيحيين الأرثوذكس.. مقابل حالة النازحين القادمين من غرب السودان جبال النوبة ودارفور بسبب الحرب ونضوب الموارد الطبيعية والذين يعيشون في معسكرات بأطراف المدن وتضعف حركة اندماجهم المجتمعي.. وولاية الخرطوم ظلت تنظر لمشكلات النازحين وإفرازات المشكلة بمنظور أمني محض، وتتخذ التدابير الإجرائية للحد من مخاطر النازحين أكثر من النظرة للقضية بأبعادها الإنسانية والسياسية.
والنازحون حينما تضطرهم الاضطرابات الأمنية في مناطقهم ويضرب الجفاف والتصحر بلدانهم كما حدث في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي فإنهم يختارون المناطق الأكثر أمناً في داخل وطنهم وحيث تتيسر سبل كسب العيش.. ونسبة لسوء المشروعات التي تستوعب الطاقات العمالية في الخرطوم يتجه النازحون تلقائياً إلى الخرطوم عاصمة البلاد القومية وليس الخرطوم الولاية.
ولإيقاف الهجرة من الريف إلى العاصمة الخرطوم ثمة سياسات ينبغي أتباعها أولاً من جهة الشمال والشرق وهي أقل المناطق التي يتوافد منها النازحين على الخرطوم ثمة حاجة حقيقية لمشروعات تنموية تستوعب الطاقات الشبابية وفي مناطق بؤر النزاعات ذات الطبيعة السياسية، فإن الخرطوم الولاية ليس أمام خيار غير التوسل إلى الخرطوم العاصمة أو إقناعها بضرورة السعي بجدية نحو تجفيف منابع الدم والدموع.. ووقف الحروب التي تدور في الأطراف لأن الحروب تعتبر المنبع الأول للنزوح واللجوء وحتى تتوقف الحرب في الأقاليم النائية ثمة حاجة لإرادة حقيقية.. وتنازلات كبيرة.. وقناعة بأن السلام هو الخيار الأفضل للدولة المركزية وللأطراف ومع إيقاف الحرب ، البدء في تعمير تلك المناطق بتوفير مياه الشرب النقية.. وإيجاد فرص للتعليم وخدمات الصحة.. ومن ثم تفكيك معسكرات النازحين حول المدن طوعاً واختياراً.. وتوظيف كل الأموال الطائلة التي كانت تنفق على الحرب للتنمية والعمران، أما دون ذلك فإن ولاية الخرطوم ستظل قبلة للنازحين من كل السودان وتتمدد العاصمة في غضون عشر سنوات قادمة ،لتبلغ منطقة أندرابة غرب.. وضواحي المتمة شمالاً ،وتتجاوز جبل أولياء جنوباً.. ولن تستطيع ولاية الخرطوم توفير الحد الأدنى من خدمات الكهرباء والماء لإنسان الخرطوم الذي صبر على الواقع الراهن لسنوات.. وهو لا يملك خياراً غير الصبر.. ووالي الخرطوم الفريق “عبد الرحيم محمد حسين” يستطيع بنفوذه السياسي لعب دوركبيرً جداً في معالجة قضية النازحين من جذورها وليس من خلال التدابير الأمنية والوقائية.. والبحث عن تمويل من الحكومة المركزية لسد عجز ميزانية الولاية.
{ انتخابات الولاة ديمقراطية نصف كم!!
قالت صحيفة مصادر في تغطيتها لإفطار أقامه القطاع السياسي للمؤتمر الوطني يوم الإثنين الماضي إن الحزب يتجه لتعديلات دستورية تجعل من انتخابات الولاة من مهام واختصاصات المجالس التشريعية في الولايات.. بعد أن قالت توصيات الحوار الوطني التي أعلن الرئيس التزامه بها وتنفيذها بدقة حرفاً حرفاً.. وقال د.”الأمين عبد الرازق” الأمين السياسي لحزب المؤتمر الشعبي وهو ثاني أكبر حزب شارك في الحوار بعد الوطني إنهم في الشعبي يعتبرون توصيات الحوار الوطني هي اتفاق الحد الأدنى ومهمة حكومة الشراكة الرمزية الحالية هي فقط تنفيذ مخرجات الحوار التي أهمها سياسياً إجراء انتخابات عامة لانتخاب أعضاء الجمعية التشريعية القومية، والانتخابات التنفيذية للولاة وأضاف إليها المتحاورون انتخاب المعتمدين.. وللدقة لم يحدد الحوار الوطني هل الانتخاب المعني من قبل الشعب مباشرة؟ أم من خلال آليات غير مباشرة مثل الانتخاب من المجالس التشريعية، ولكن في أي نظام ديمقراطي حقيقي وليس ديمقراطي نصف كم، كما يسعى البعض لذلك فالإنتخابات هي إرادة عموم الشعب وخياره ومسألة انتخاب الولاة من المجالس التشريعية تعتريها مصاعب عملية وتجد معارضة من قبل الأحزاب التي ربما لا ترغب في التنافس في كل المستويات فكيف يتم حرمانها من حق المنافسة على منصب الوالي؟؟ وبعض الأحزاب الصغيرة أو الكبيرة ربما اختارت مثلاً التنافس وخوض الانتخابات فقط على مستوى المحليات للسيطرة على المجالس التشريعية للمحليات، وفي ذات الوقت تنافس هذه الأحزاب على مستوى البرلمان القومي فقط.. فكيف يتسنى لها المنافسة على منصب الوالي.؟؟
الديمقراطية ممارسة لا يمكن تفصيلها حسب الطلب.. ومن يقبل ويرتضي حكم الشعب عليه تحمل نتائج وتبعات ذلك وإذا عهد الأمر لأعضاء المجالس التشريعية في الولايات فإن كثير من الأحزاب تفقد فرصة المنافسة لمنصب الوالي وإذا كان المؤتمر الوطني قد ألغى في الانتخابات الماضية نتائج اختيارات مرشحيه لمنصب الوالي جراء الممارسات الخاطئة التي شهدتها عملية الاختيار في عدد محدود من الولايات وتحديداً في جنوب دارفور حيث انقسم أعضاء وقيادات المؤتمر الوطني إلى (فريقين قبليين) أحدهما باسم (هبت) وآخر تحت اسم (ستقف) فإن جنرالاً في غرب كردفان زج ببعض منافسيه في المعتقلات.. والسجون ونثرت الأموال في ولايات النيل الأبيض وشمال دارفور، ولكن بقية الولايات شهدت ممارسات نظيفة مثل الخرطوم وشمال كردفان والقضارف والجزيرة والبحر الأحمر والشمالية.. ولكن سوء ممارسة الأقلية قد أنسحبت على أكثرية الولايات.. وحرض البروفيسور “إبراهيم غندور” وهو نائب رئيس المؤتمر الوطني حينذاك بعض الكُتاب والصحافيين للمطالبة بإلغاء الانتخابات وجعل اختيار الولاة من سلطة الرئيس و للأمانة اختيار الولاية وفق معايير دقيقة ووجدت كل ولاية واحدة من القائمة المرشحة لمنصب الوالي قد عين في ولاية أخرى وذلك كان مبعث رضا لقطاع عريض من أهل الولايات الذين كانوا يتخوفون من مصادرة حقوقهم وتعيين كل الولاة من جهة واحدة وإقليم بعينه.. وبدد الرئيس المخاوف والشكوك حتى الأخطاء الأخيرة التي تبعت تعيينات الولاة.. وإعفاء أصحاب العطاء كانت أخطاء لمن هم دون الرئيس.. وقانون الانتخابات الذي هو في مرحلة المخاض الآن لا ينبغي له إغفال حقائق مهمة حول مطلوبات النظام الديمقراطي من جهة.. وسياسياً ثمة حاجة حقيقية لمصلحة استقرار البلاد وتوطين الديمقراطية البحث عن سبيل لإشراك القوات المسلحة في العملية السياسية وتأطير وجودها في الحكم دستورياً حتى يكتب للديمقراطية الاستمرار والديمومة وينهي قادة البلاد متوالية الديمقراطية والانقلابات العسكرية.. وواقع السودان اليوم يضع على كاهل القوات المسلحة، ونعني بها كل من الجيش والأمن وقوات الدعم السريع مسؤوليات جسام في الحفاظ على أمن البلاد المهددة من قبل تمرد الأطراف والمهددة من دول الجوار.. وفي ظل الواقع الحالي فإن إشراك القوات المسلحة وإيجاد صيغة مثلى لضمان شعورها بالرضا.. وتحمل المسؤوليات يعتبر فرض عين على المشرعين للدستور والقوانين ومن نقاط ضعف الحوار الوطني البائنة تجاهله لدور القوات المسلحة.. وعدم ذكره لما ينبغي أن تكون عليه في ظل التعددية القادمة.. وحينما أعلنت قيادة القوات المسلحة قبل شهر من الآن البيعة للقائد العام المشير “البشير” وإسنادها له كمرشح لانتخابات 2020م، فإن تلك الإشارة الذكية كان حرياً بصناع السياسة في المؤتمر الوطني وخاصة الثنائي د.”فيصل حسن إبراهيم” و”حامد ممتاز” لاستيعابها.. والعمل على تأطير وجود القوات المسلحة في العملية السياسية دستورياً وقانونياً ولأن المشير “البشير” يمثل اليوم رمزية قومية.. وهو الضامن الوحيد لمشاركة القوات المسلحة.. وهي حق أصيل لهذا الفصيل القومي، وفي وجود “البشير” تشعر القوات المسلحة بالاطمئنان والثقة في قيادة الدولة.. ولكن “البشير” وجوده في قمة الدولة ورأسها قد ينتهي ويتنحى بعد سبع سنوات فقط من الآن.. فكيف السبيل.. وقد ينتخب المؤتمر الوطني رئيساً مدنياً.. فكيف تطمئن القوات المسلحة وهى الفاعل الرئيس لمشاركتها في نظام الحكم.. من مستوى المعتمدين والولاة وحتى مجلس الوزراء.. فلا يكفي أن يعين وزير دفاع من قوات المشاة.. ومدير جهاز الأمن من أصحاب النظارات السوداء.. ووزير الداخلية من قوات أبو طيرة البفك الحيرة.. لا بد من مشاركة حقيقية في إدارة شأن الدولة طبعاً دون وصاية كما كان يحدث في تركيا قبل “أردوغان”.. ولكن مشاركة القوات المسلحة تعتبر ضرورة وضمان لأي نظام حكم مستقر في البلاد.
{ ثمرة التغيير!!
المفاوضات التي جرت يوم الأربعاء الماضي بالعاصمة الجنوبية جوبا أفضت لموافقة “سلفاكير ميارديت” رئيس دولة جنوب السودان لقاء نائبه الأول السابق وغريمه “رياك مشار” في العاصمة الخرطوم وذلك بعد الرسالة التي بعث بها الرئيس “البشير” إليه مع مبعوث وزير الخارجية د.”الدرديري محمد أحمد” ومدير عام جهاز الأمن والمخابرات “صلاح قوش”.. الذي يعمل في تناغم وتنسيق رفيع مع وزير الخارجية.. وهذا يحدث لأول مرة منذ سنوات.. وبدأت الحكومة تحصد ثمرات التغييرات الأخيرة وعودة الرئيس للحرس القديم ذوي الخبرة والقدرات والوعي بقضايا البلاد ممثلاً في الوزير “الدرديري محمد أحمد” والفريق “صلاح قوش” الذي نشط خلال الأسبوعين الماضيين في ترميم ما أفسدته السنوات الماضية.. وفي صمت وبعيد عن أضواء الأعلام خاض “صلاح قوش” مفاوضات مع دولة الإمارات العربية المتحدة التي يرتبط “صلاح” بعلاقات وثيقة مع قادتها.. ومنذ أن غادر الفريق “طه الحسين” موقعه كمدير لمكتب رئيس الجمهورية لم يحدث اختراق حقيقي في العلاقات مع الإماراتيين إلا بعد عودة “صلاح قوش” لرسالة الجهاز وأسهمت الإمارات في فك الضائقة التي عاشتها البلاد في الشهور الماضية من نقص الوقود والغاز.. ومن بعد ذلك اتجه “صلاح قوش” و”الدرديري” إلى القاهرة وقدم التهنئة إلى الرئيس “السيسي” نيابة عن الرئيس “البشير” وامتدت زيارته إلى السيد “محمد عثمان الميرغني” بالقاهرة باعتباره قيادياً كبيراً في الحزب الاتحادي الديمقراطي، ولكن أكبر الاختراقات التي حدثت في ملف العلاقة مع دولة الجنوب بدأت في أديس أبابا عند لقاءات وزير الخارجية “الدرديري” بقادة دولة الجنوب الذين يقدرون شخصية “الدرديري” الذي صنع ربيع السلام في السودان وهو شخصية فاعلة جداً في ملف المفاوضات التي أفضت لانقسام الجنوب.. واستطاع الثنائي “الدرديري” و”صلاح قوش” إعادة السودان لموقعه الطبيعي كدولة مفتاحية لحل أزمات ومشكلات الجنوب بعد أن كان السودان لتقديرات خاطئة قد نأى بنفسه عن القضية الجنوبية وحصر جهده ضمن منظومة دول الإيقاد في الوقت الذي يملك السودان كل مفاتيح الحل ويحظى الرئيس “البشير” بتقدير واحترام كل الأطراف المتصارعة.. ويختزن بالطبع خبرات لا تتوفر للقيادة الأثيوبية ولا الاريترية ولا اليوغندية.. ولكن سوء التقدير جعل الخرطوم بعيدة عن الملف الجنوبي.. واليوم تعود بقوة لمصلحة الجنوبيين ولمصلحة التسوية في المنطقتين، فإذا أثمرت جهود الثنائي “الدرديري” و”صلاح قوش” في أحداث المصالحة الجنوبية، فإن ثمرات تلك المصالحة ستتساقط على المنطقتين وتساهم جوبا أيضاً في التسوية المتعثرة.. ولكن هل تستمر الثنائية في أداء دورها؟؟ أم يتحرش بها أعداء النجاح والمتربصين بكل من يعطي بإخلاص ويعمل بجهد مخلص.. فالفريق “صلاح قوش” له تجربة مريرة مع (الحفارين) داخل المؤتمر الوطني الذين يحاربون الناجحين وهم لا يعملون ولا يتركون الآخرين ليقدموا عطاءهم.. ونجاح جهود “صلاح قوش” و”الدرديري” من نجاحات التغيير والتبديل وعودة الوعي كما يقول “توفيق الحكيم”.
المجهر السياسي.