أطلق الفريق دكتور محمد عثمان الركابى وزير المالية آخره ولم يرتد له جفن وهو يصور حالة رزيئة لإقتصادنا الوطنى فى مرثيته النادرة التى قدمها نثرا دارجا وفصيحا من داخل قبة المجلس الوطنى لنوابه متحديا من يملك حلولا للأزمة غير حلولهم الحالية الصعبة ووصف من يقول بامتلاكها بأنه غشاش لنفسه وللشعب، الفريق الركابى شبه نعى إقتصادنا الوطنى بحقائق صادمة لو أوردتها المعارضة لظنناها مجرد مزايدة، لم يترك الرجل فسحة للآخرين للنقد وقد رمى كل شئ على بلاطة بقصد إسكات الأصوات النائلة منه خاصة من جهة الحاكمين والمشاركين بحكومة الحوار الوطنى، متبرئا من أبوية الميزانية الحالية منفردا ورادها لكل الشركاء، ولم يطمئننا وهو يصف أزمتنا المعيشية بكرة ثلج كلما تدحرجت تورمت وانتفخت ورما وانتفاخا خبيثين وبذات الوصف للضائقة سبقناه بالذكر فى هذه المساحة التحليلية للأخبار الرئيسة والمؤثرة فى حياة الناس الذين تحسسوا كل ما يليهم وهم يطالعون إفادات الفريق الركابى، فخافوا على أنفسهم وأهليهم من نار وقودها وحطبها عدم وجود رؤى واضحة المعالم للخلاص من الأزمة المعيشية وزاد من طينتهم بلة قول الوزير بعدم وجود حلول للأزمة الخطيرة طالما السياسات المتبعة من بنات أفكار أجدادنا القدماء الذين وضعوها وشرعوها على قدر حوائجهم ووفقا لمعطيات وعناصر وامكانات محدودة، وكالأصنام ظلت هذه السياسات سارية بصلاحية منتهية للأبناء والأحفاد متوارثة حتى يومنا، وإعتراف وزير المالية بعدم فائدة السياسات المتبعة ربما يدل على رؤية إقتصادية عليه موافتنا بها بآجالها حتى لا تكون كعملتنا معومة أو شبه ذلك دون قدرة للتدخل لإقالة عثراتها فى أخطر منعرجاتها.
غموض تغير الخمسين
مصيبتنا ان من سبقوا الركابى الفريق، لم يحدثونا بصراحته المطلوبة التى تشف وتنم عن رغبة جامحة فى التغيير الجذري وبعقل كلى وجمعى للخروج من عنق الأزمة، الأزمة التى بلغت مدى دفع برئيس المجلس بالشكوى من شح السيولة حتى طمأنه الفريق الركابى بقدرتهم على تغذية مصارفها مع عزائه لأسبابها لحرب إعلامية ونفسية تسببت فى سحب المواطنين المليارات وتخزينها فى البيوت لتكون بذلك الكتلة النقدية خارج سيطرة الجهاز المصرفى مما يعقد الحلول ويفاقم الأزمة التى لايفصل الناس بين جزيئياتها وهى دائرة كهربائية سريان تيارها يحتم عدم أي إنفصام فيها، فالناس الآن متشككون فى دفوعات خطوة البنك المركزى القاضية بسحب العملة النقدية الورقية فئة الخمسين وإستبدالها بأخرى لازال الإعلان عنها مستمرا، وكان لـ(أخبار اليوم) قصب السبق فى الإعلان عن هذه الخطوة وفقا لمصادر مطلعة كشفتها لها وعزت أسبابها لقيام جهات خارجية وداخلية بإدخال عملات مزورة من فئة الخمسين بغرض مفاقمة الكتلة النقدية المتداولة بلا تغطيات للمطروح مما يتسبب فى مصائب فادحة على النشاط الإقتصادى الوطنى، وليس من بد أمام البنك المركزى سوى القيام بهذه الخطوة لإمتصاص الآثار السالبة والمدمرة للعملة الوطنية التى تعانى أصلا دون إنتظار لطمات فى ذات مواجعها ومقاتلها، والناس فى بلادى ومن فرط إحاسيسهم بفقدان الثقة جلهم إن لم يكن كلهم يتهم قاطعا الحكومة بأنها أقدمت على خطوة تغيير فئة الخمسين لتخويف الساحبين لنقودهم ليقوموا بإرجاعها خشية من تزويرها ومن ثم يتسنى للحكومة الطباعة للفئة الجديدة بالعجز لتسيير الأمور دون الاعتبار لخطورة الطباعة بلا حساب وانعكاسها على حياة الناس إرتفاعا فى الأسعار وبلوغا لأقصى وأقسى معدلات التضخم التى تحوم نذرها وإرهاصتها فى الآفاق، ولا يمكن لحكومة عاقلة تقوم بفعلة شنعاء كالتى يظنها الناس ووزير ماليتها حدثهم بأخطر الإفادات التى لا تحتمل معها حكومته تنفيذ ما يراه الناس سببا لتغيير فئة الخمسين جنيها، وبداية الإصلاح الذى يدعو له الفريق الركابى هو فى جنس صراحته الصادمة مع السعى لإستعادة الثقة المفقودة فى الإفادات الرسمية الحقيقية دعك من التجميلية التى ألقى بها الفريق الركابى فى مزبلة وسلة المهملات، وعلى الناس وحتى يثبت العكس إثباتا ليس صعبا، أن يتعاملوا مع خطوة تغيير فئة الخمسين بأسبابها المعلنة، تعاملا تبدو حتى الدعوة له تشوبها الشكوك والظنون أيا كانت مصادرها ومنصات إنطلاقها.
إلى متى يطبعون ؟
والنزوع لتغيير العملات منذ خليقة نظرية النقود الوهمية المحفوفة بالغموض وعدم الوضوح وفائدة المردود، أسبابه معلومة، إما لأن العملة النقدية أصابها التداول بالإهتراء وهنا تبدو الحاجة للسحب وإعادة الطباعة حتى مع إحداث تغيير أمرا عاديا لا غبار عليه ولا يثير شكوكا ولا غموضا، وهناك أسباب للطباعة لتحسين القدرات الشرائية وبالتالى تعزيز الأنشطة الإقتصادية شريطة وجود تغطيات حقيقية للطباعة النقدية، ويمكن الطباعة فى مثل حالتنا المعلنة من قبل بنكنا المركزى لمحاربة تزوير خطير مصحوب كشفه بأدلة وشواهد قد يكون من الصعب التوافر عليها وتبقى مجرد الشكوك كافية للتغيير فى الفئة المزورة مع الإلتزام بالطباعة فى حدود التغطيات المتاحة من نقد أجنبي وذهب وحصائل إنتاجية حقيقية ليبقى المطبوع من النقود ذات قيمة، ودون ذلك تبقى الطباعة عبثا تسبب فى إنهيارات تاريخية معاصرة فى عهد السيطرة الأمريكية النقدية من أربعين القرن الماضى واتخاذها المعيارية والتسعيرية الأولى للنفط والذهب وسائر السلع، والإقتصاد الأمريكى حتى تمويل ميزانياته بالعجز ذات مردود بسبب الإستفادة بالتخصيص والهيمنة العالمية في مشروعات أفقية ورأسية داخلية وخارجية وبالتالى يمتص صدمات جنس هذا التمويل والتغذية النقدية، ويحفظ لكل بلد هيبة عملتها قوة إقتصاده وليس فى كل الأحوال إنخفاض عملة بلد ما كاليابان مقابل الدولار يعنى تدنى الإقتصاد الياباني الذى يختار عرابوه سياسة السعر والقيمة الثابتة بحسابات دقيقة قائمة على عملية الإنتاج والإحتياطيات الحقيقية، دول أخرى تختار التعامل بسلة العملات إحلالا وإبدلا لتبقي على قوة عملتها دون تأثر بعلوها على عملة العيارية العالمية، دول كالصين تتعمد خفض عملاتها لزيادة صادراتها التى تدر مالا وفيرا للمصدرين بالإستفادة من فرق العملة، معادلة محفوظة ومحروسة بدقة فائقة وعقابية رادعة، الشاهد أن التركيز على المسميات دون النفاذ إلى لب الأزمة الإقتصادية السودانية على طريقة الفريق الركابى، لن يقدم وقطعا يؤخر، فهل يا ترى لدينا خزائن ملأى بخطط تتجاوز سياسات جدودنا القدماء مع فائق التقدير والإحترام، خطط تتجاوز صنمية نظريات إقتصادية بالية لازالت تدرس فى جامعاتنا لطلابنا وغيرنا مضى بعيدا فى تدريس الطلاب نظريات واقعية تتغير ومعطيات القوة الإقتصادية غير الثابتة ودول كانت عملاتها ذات ثقل فى يوم مضى وأخرى جاءت من بعيد واحتلت مكانها، تقارير نقدية دولية توصلت غير مرة لإنخفاض قيمة عملات عن معدلاتها المعلنة منها الدولار والإسترلينى الذى كان ذات يوم صاحب شنة ورنة، دراسة التاريخ لإستصحابها مع الواقع من مخارجنا المفقودة، والتفرغ لتعقيدات الإقتصاد على نحو الناجحين إنما بأمة قوية قادرة بقيادات ما على تجاوز الأمراض السياسية المقعدة بنا منذ لدن بعيد، لن نبلغ مرحلة الوصول لسياسات إقتصادية صرعة وموضة إلا بتجاوز سياسات جدودنا القدماء المعاصرين وبالوعي بأهمية الإفساح للمدارس وفي المجالس، دون ذلك سنكون محلك الفريق الركابى وإن بدلناه بكل الرتب مع فائق احترامنا وتقديرنا.
بقلم
عاصم البلال
أخبار اليوم