ياسر عرمان: ميغان وهاري حب ملهم .. نقوش على دفاتر التمييز والعنصرية في السودان

العنصرية والتمييز هما من الأسباب المركبة والعميقة للحروب في السودان، فقد قال دكتور فرانسيس مدينق دينق (إن المسكوت عنه هو ما يفرقنا)، إذن علينا الحديث عن المسكوت عنه حتي نجتمع مرة آخرى على ضفاف النيل.

الجديد يقتحم الحياة والأرض دون أن يستأذن حتى من أسرة مالكة، ويضع خطوة على طريق تقدم الإنسانية، ويحطم إحدى المحرمات والتابوهات ويتجاوز مسلمات الماضي والتقاليد البالية، عندما تزوج الأمير هاري من ميغان إشتعلت النيران في أطراف ثوب الملكية العريقة وبهر الضوء أعين ملايين المتابعين وكان ذلك جديراً بالمشاهدة.

ورث الأمير هاري تمرده من أمه الأميرة ديانا، مثلما ما ورث ألقابه الملكية، ولكنه أعطى لتمرده نكهته الخاصة به.

غُيِّبت ديانا عن مسرح الحياة التي أجادت الحضور فيها، ولكن روحها الثائرة والمعذبة لازالت تطارد هذا العالم، وتابوهاته وتأخذ بثأرها ودمها لايزال على نوافذ العربة وما تطاير منه على جدران النفق في باريس، وعلى أجنحة ديانا وهاري المشبعة بالتمرد عبرت امرأة سوداء هي والدة ميغان التحيزات العرقية ورافقت إبنتها في مصاهرة متعددة الأعراق مع أعرق اسرة مالكة بيضاء في أوروبا وربما العالم.

غرد الإمام محمد أحمد المهدي من حسابه على تويتر وهو الذي إلحق الهزيمة بالجنرال هكس في غابة شيكان، ومن جهاز (الأيباد) الخاص به، ساخراً من خبر ورد في صحيفتي(القارديان والتايمز) البريطانيتين عن رغبة الأمير يونس الدكيم، في الزواج من ملكة بريطانيا، وإن جاء هذا الحدث لاحقاً على أيام الخليفة عبدالله التعايشي، في أول محاولة فاشلة من الأفارقة السود للإختلاط بالأسرة المالكة، وقال الأمام المهدي في تغريدته ” إن ذلك كان مجرد دعاية من الصحافة البريطانية للتغطية على الهزائم التي تلقتها الإمبراطورية والنظام الكولونيالي على أيدي أناس سود” وأكد إن الأمير يونس ربما يكون وكيل العروس ميغان، فقد تمت دعوته لحفل الزواج، سيما وإن والد العروس لم يحضر الزفاف.

دماء ميغان وجيناتها تعود لأناس عانوا من تجارة الرقيق والاستعمار والاضطهاد والعنصرية ونهب ثروات ملايين السود وتحطيم بلدان وقارات ومجتمعات وشعوب ومستعمرات بكاملها بالأسلحة النارية في إفريقيا وحتى جذر الإنديز الغربية.

حطم الأمير هاري إحدى تابوهات العار الإنساني بأن يكون الزواج في الأسرة المالكة حصريا من عرق بعينه على أن لا يشمل السود، وما لله لله، وما لقيصر لقيصر، حطمه ليس في أرض المنبوذين العريقة الهند، ولكن عند إحدى أعرق الأسر الأوروبية المالكة، وفي بث مباشر للجمهور، وعلى مرأى من العالم، وأخذ لوالدته ديانا بعض من ثأرها في تعقب التابوهات والمحرمات والتقاليد البالية، كانت حياة الأميرة مميزة في التحفيز على منازلة القديم ودعا هاري وميغان (1200) من عامة الشعب للحضور على هامش الزواج.

عرض الأمير هاري الملكية في ثوب جديد على صالات الالفية الثالثة، وأتاح لقس أمريكي اسود الحديث عن قوة الحب كمدخل لوحدة الإنسانية وتقدمها، وشبه قوة الحب باكتشاف النار، وما أحدثه في الحياة الإنسانية من تطور، وتحدث القس الأسود مرفوع الراس أمام الطبقة الأرستوقراطية البريطانية العريقة، وفي عقر دارهم، حدثهم عن ما يثير الإعجاب في أقوال مارتن لوثر كينج!

رأيت في قلعة (وندسور) مالكوم أكس وأستوكلي كارمايكل ومارتن لوثر كينج يتبادلون الابتسامات ويلوحون بأيديهم من قلب حركة الحقوق المدنية ويباركون الزواج.

اضفى حضور الأميرعثمان دقنة أمير الشرق وقاراً على حفل الزواج، وقد أتى من سجن وادي حلفا بعد أن أمضى ما يقارب ثلاثة عقود في السجن، وقد ارتدى (سواكني) واتكأ على سيفه ولم يعتذر عن معارك التيب ووطماي، كان جالساً الي جانبه روديارد كبلنج شاعر الإمبراطورية الذي قال إن المعارك ضد الكولونيالية قد مهدت الطريق لهذا الزواج، وإنه لم يأتِ من فراغ.

في زواج هاري وميغان إذا تجاوزنا شكليات العمر (33-36) والزواج من إمراة مطلقة وممثلة وتجاوز كثير من تقاليد الأسرة المالكة، لكن الذي لا يمكن تجاوزه والذي شكل حدث جدير بالتوقف عنده هو إدخال إمراة جميلة تنتمي من ناحية والدتها للسود، على الرغم من العلم قد اثبت إن جميع البشر ينحدرون من السود، والي السود يرجعون بتدبير من رب الكون العظيم، ولكن التمييز ضد السود لا يزال في عالم اليوم.

في رحلتنا الأخيرة في السودان، حينما ما اضعنا بعض احلامنا في الوحدة اكتشفنا أنّ الانفصال وحده غير كافٍ للقضاء على التهميش وحل مشكلة الهوية والتنوع، ولازالت أسئلة الماضي تلاحق طرفي بلادنا بعد الانفصال.

صحيح أن زواج الأمير هاري من إمراة بعضها اسود لن يجلب الحليب للأطفال والخبز للفقراء ولن يلغي قوانيين الاستغلال، والتراتب الطبقي وارتفاع معدلات البطالة لاسيّما بين الشباب واختفاء قطاعات الراسمالية المنتجة في بريطانيا، ومصاعب الحياة التي تواجه الناس هناك بيضا وسوداً، ولكن حتماً إنما حدث اودع بعض المحرمات والتابوهات في متحف الشمع عند مدام توسو.

تحت سنابك تحديات الألفية الثالثة يطوي العالم بعض التحيزات الاثنية والدينية ويستقبل آخرى أشد مضاضة ويمضي على نحو مضطرد نحو القبول الانساني وحق الآخرين في ان يكونوا آخرين، وهذا يحمل الأمل لكثير من الذين ظلموا في الماضي، فالانسان يعيش على الأمل وامكانية تحقيق الحلم الانساني في الغاء الفوارق وبناء عالم جديد.

تحت الأضواء الباهرة في نهار وامسية الزواج تغنى السود القادمين من أمريكا في الجوقة وانتزعوا موقعاً متميزاً بعد سنوات طويلة من التمييز المجحف، ورأينا جوقة زواج ملكية سوداء، وجلس بعض السود من كبار المدعوين الذين لايكتوون بنيران الجوع مثلما اكتوى أسلافهم من السلاح الناري الكولونيالي، عكس هذا تغييراً حتى وان كان شكلياً فهو مهم، ورأينا اوبرا وينفري وسرينا وليامز، في الصفوف الأولى، ومثلما احتفلنا بالأمس بامراة سوداء ورجل اسود في البيت (الأبيض) الذي اصبح قاطنوه من السود آنذاك، ذلك بالطبع لم ينتج مجتمعاً جديداً ولكنه انتج املاً إنسانياً.

شاهدت الزواج الملكي في (19) مايو علي شاشة التلفاز والتلفاز لايصنع ثورة لكنه ينقل الثورات والحروب الحديثة، وتذكرت أرضنا الطيبة وبلادنا السودان التي مضى على صهوات جيادها تهراقا الي فلسطين، تهراقا الذي حاول إنصاف الخيول في الكتابات التي وجدت في مدونته، فما بالنا ضللنا الطريق ولم ننصف الانسان.

بلادنا ارض التعايش ومهبط العلوم والديانات والتوحيد الذي أتى من أرضها قبل ان تأذن به السماء، ماذا أصاب بلادنا؟ لماذا لا يقوم شبابنا بكسر المحرمات والمسلمات والتابوهات وتجاوز ازمنة تجارة الرقيق وثقافته، ولنفتح جراح العنصرية والتمييز لضوء الشمس حتى نبني مجتمعاً جديداً.

العنصرية هي ما ظهر من جبل الجليد وقاعدتها هي الاستغلال الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وأنها تتوكأ على عصا اكتناز الموارد واحتكار السلطة وهندسة الاقتصاد السياسي، وموت العنصرية مرهون بموت اقتصادها السياسي وبنيتها الاجتماعية والثقافية، والغاء علاقات الاستغلال، وحينما جربنا الانفصال فإننا تركنا الحصان القديم وحيداً، ولم نبتاع حصاناً جديداً وسرنا في الطريق القديم.

إن تاريخ العنصرية قديم قدم التاريخ الإنساني وصناعة العنصرية مركبة ومتعددة الجوانب، فهي تتعدى اللون وموجودة في داخل ثقافات المجتمعات السوداء والبيضاء على السواء، والانتقال الي مجتمع لا عنصري لا يتأتى الا بالعدالة والغاء كافة أشكال الاستغلال والتمييز.

أجيالُنا الشابة تحتاج أن تبصر النور وأن تفتح ذهنها على الأسئلة المحرمة في تاريخنا وان تعترف بأن مجتمعنا يحفل بالعنصرية والتمييز، حتى حينما يتم اطلاق سراح المعتقلين دعك عن قضايا الزواج. وعلى شبابنا أن ينتظموا في حركة للحقوق المدنية والسياسية ورفض التمييز بكافة أشكاله لاسيّما تمظهراتها الاجتماعية والثقافية.

على الثوريين رؤية الجديد حتي حينما يأتيهم من عند المحافظين والأسرة المالكة وان لا تضع الأيديولوجيا حاجزاً بيننا وبين رؤية الجديد، إن الحياة مليئة بالمتمردين وبالتمرد، الذين يبحثون عن نسق مغاير، وهذا سر تقدمها وجمالها.

نقلت الكاميرات في نهاية حفل الزواج صورة علي عبداللطيف معتمراً (طربوشه) يرتدي بَزّته الأنيقة كما في الأمس، لم يعلوها غبار الزمن وبجانبه جلس عبيد حاج الأمين الذي أتى من مرقده في مدينة واو، وعلى الجانب الآخر عبدالفضيل الماظ وجرحه لا زال ينزف، وقد غطاه بضمادة، وبدا لي وكأن (كون أنوقك) من نواحي عالياب وعلي دينار والسلطان أندوكا من المساليت قادما من معركة دروتي والسلطان عجبنا وإبنته مندي وعلي الميراوي ووندينق نبي النوير وقودوي سلطان الزاندي الذي حارب البلجيك والفرنسيين، قد جلسوا في قلعة وندسور بدعوة من ميغان لحضور حفل الزواج.

شكراً للأمير هاري الذي لم ينسَ فؤاداً أهدي إليه الغرام، وشكراً للدوقة ميغان ماركل التي لم تنسَ محباً أهدى العيون بريقاً.

بقلم
ياسر عرمان

Exit mobile version