تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، لقد تحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا عن الفتن، حفظ من حفظ ونسي من نسي، جاء عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه قال: كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلما حضرت صلاة نزل فصلى، ثم عاد إلى مقامه فحدثنا بما هو كائن من لدن مقامه إلى أن تقوم الساعة ما من أمير على مائة فأعلى ضل ولا اهتدى إلا وقد سماه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حفظ من حفظ، ونسي من نسي، قال حذيفة: فأما أنا فإني قد تعلمت الشر فحفظته فعلمت أني إذا حفظت الشر اجتنبته فلم أقع إلا في الخير.
وفي رواية عن أبي سعيد الخدري، قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بعد العصر، فصلى العصر يومئذ بنهار، فما ترك شيئا إلى يوم القيامة إلا ذكره في مقامه ذلك، حفظ من حفظ ونسي من نسي، ثم قال: «أَلا إِنَّ هَذِهِ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَنَاظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، أَلا فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ».. (أخرجه مسلم).
ما من وسيلة للتعامل مع الفتنة إلا وذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مجرد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم للفتنة يخفف منها، إذ القاعدة المستقرة عند جميع العقلاء أن «الحكم على الشيء فرع عن تصوره».
فتصور الفتنة والتأمل فيها من خلال حديث سيد الخلق عنها يؤدي إلى فهمها واستيعابها، ومن ثم إمكانية الإحاطة بها من كل جانب؛ تمهيدا لوأدها ودفعها بفضل من الله من بداية ظهورها.
انظروا إلى الوصف الدقيق للفتن وما تولده من آفات مدمرة في حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا».. أخرجه مسلم.
فيضع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثالا حسيا لمدى البلاء والشقاء الذي تحدثه هذه الفتن، فهي كسواد الليل الذي لا يرى الإنسان بسببه شيئا، ثم إن هذا السواد سيبقى يلاحق الناس في أزمنة وأمكنة متوالية، لا يكاد المرء يخرج من مرحلة منها في زمان إلا وعادت تستقبله في الزمان الذي بعده، ولا يكاد المرء يستطيع أن يفر منها في مكان إلا وأصابته في المكان الذي فر إليه.
ويخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هناك من سيسقط في الفتنة فـ«يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا».
لذلك كانت نصيحة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته أن يبادروا بالأعمال الصالحات التي تجعلهم في حالة نورانية تتجاوز بهم هجمة الفتن بظلامها المحيط والمتعاقب.
هذا النصح المرتبط بالوصف بحد ذاته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفف من حدة الفتنة، لأنه يؤدي إلى الإحاطة بها واحتوائها في نهاية الأمر.
قريب من الحديث السابق حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ»، قيل: وما الرويبضة؟ قال: «الرَّجُلُ التَّافِهُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ».
أيضا هذا الحديث فيه وصف يؤدي إلى الإحاطة والاحتواء.
وهكذا كل أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتن مجرد الوصف يفيد في الاستيعاب والاحتواء، ومن ثم دفع الفتنة واجتنابها والنجاة منها.
* نقلا عن موقع دار الإفتاء المصرية
مصراوي