(أ)
على مر التاريخ الإنساني، لم تجد مدينة في الدنيا صيتاً وخبراً وذكراً وخلافاً واحتراباً وصراعاً وحباً ومكانة وتقديساً، كما وجدت مدينة القدس المحتلة، ولم تكن على وجه البسيطة في العهود والحقب المختلفة مكاناً مغسولاً بالنور الإلهي كما هي القدس وبيتها العتيق ومآذنها ومنائرها وكنائسها،
فهي بوابة السماء ومنفذ العروج السماوي الكبير، تلتقي فيها الأديان حتى جاء الدين الخاتم وكانت قبلة المسلمين الأولى ومسرى الرسول الكريم (ص) ليحيلها الإسلام إلى واحة للسلام والصفاء والمحبة والإخاء ويعطيها عزيز مكانها لتكون درة في تاج الزمان.
ولم تكن القدس إلا تلك الهالة الساطعة في الأزمان والتواريخ، تتلامع وسط الحضارات والثقافات، وتؤثر في مسيرة الزمان والإنسان، وفي نفس الوقت دائماً لا تترك تعيش في سلام وما تهبه للعالمين من سلام، مثخنة بجراحها، مفجوعة في فياحها، مرت عليها ما لا تحصى من حروب في عهود الكنعانيين والهكسوس والآشوريين والفينيقيين والفراعنة والرومان والاغريق والبيزنطيين والفرس حتى احتضنها المسلمون لتعيش مرفوعة الجبين سامقة كنخلة، عزيزة كنجمة سابحة في فضاء السلام العريض، لم يتركها الصليبيون قاتلوا من أجلها.. كان ريتشارد قلب الأسد وفيليب اوغست ولويس السابع وكونراد الثالث وبرنارد دي كليرفو وستيفن كونت بالوا والكونت يوستاس وجودفري ديبوبون والكونت بودوان والكونت رينو وريموند والبابا غريغوريوس الثامن والبابا اينوقنتيوس والبابا انوسنت الثالث واندراش الثاني والامبراطور فريدريك الثاني هوهنشتاوفن والملك لويس التاسع فردريك بربروسا والملك شارل الاول والملك بطرس الاول ..
كل هذه الحملات الصليبية التي احتلت فيها القدس، لم تخنع المدينة رغم أنهار الدماء التي سالت فيها ومئات الآلاف من الشهداء، لكن البطل الإسلامي الكبير صلاح الدين الايوبي حررها من الصليبيين وحافظ عليها وحمى بي المقدس والمقدسات الإسلامية والنصرانية جميعاً من حقد الحاقدين، وكذلك كان من حماتها وأبطال معاركها الظاهر بيبرس القائد المسلم العظيم، ولم تنج المدينة المقدسة من الأحقاد والمؤامرات والدسائس، وعندما جاء الاستعمار في القرن التاسع عشر وطئت اقدام قائد القوات الاستعمارية الجنرال الفرنسي (هنري غورو) أرضها، بعد معركة ميلسون التي انتصر فيها الغزاة وصاح بملء فيه وهو ينفث سموم حقد تاريخي لم يمح وظل باقياً لقرون طويلة في الذاكرة الصليبية الغربية وقال وهو يضع قدمه على قبر صلاح الدين الايوبي في دمشق: ( ها قد عدنا يا صلاح الدين..)!!
(ب)
من الذي يسير من زمن الى زمن، كما ظلت وكانت تسير مدينة القدس، مئزرها هو أوشحة الأنبياء بينما أكف السماء التي تلامس وجهها وتغسل عيونها وتضع وردة نورانية علي خديها الاسيلين وتقبل شفاه السماء جبينها الضوئي اللامع، كان محمود درويش العبرات يخنقن قصائده، يقول:
(الأنبياء يتقاسمون تاريخ القدس.. يصعدون إلى السماء ويرجعون أقل إحباطاً وحزناً
فالمحبة والسلام مقدسان وقادمان إلى المدينة، كنت امشي فوق منحدر وأهجس: كيف يختلف الرواة على كلام الضوء في حجر؟ أمن حجر شحيح الضوء تندلع الحروب ..؟).
القدس هي القدس .. شامة في خد الأيام والدهور والعصور، محور البوصلة في مسيرة البشرية، تنبثق من ذراها وتلالها وعيون اهلها وأحجارها وطلاسمها وأبوابها وأسوارها العريقة القديمة، رسالات السماء، يتوافد إليها الأنبياء يصلون خلف النبي الخاتم في بيت المقدس، يقصدها الحجيج في أزمن غابرة وحاضرة من كل مكان، فهي تفتح ذراعيها للجميع، إن بكت لا تبك إلا بصمتها العتيد، تفوح حولها رائحة الموت لكنها برحيقها وعبيرها الوردي تبقى شامخة، يتقاتلون حولها تتلطخ ثيابها بالدماء تتساقط الأشلاء تحت أقدامها لكنها تحولها إلى براعم من زهر وأغصان من زيتون.
(ت)
ظلت القدس من بعد الحروب الصليبية إلى أن وقعت في الأسر في يد أقذر الغزاة البغاة بني صهيون. وعندما احتلت في عام النكسة 1967م كانت قوات الاحتلال الصهيوني تتقيأ ذات الحقد القديم الذي صنعته الصليبية المتطرفة وهي نواة الصهيونية الاولى قبل أن تولد الصهيونية رسمياً في نهايات القرن التاسع عشر، وعندما دخلها الصهاينة واليهود بأقدامهم النجسة إقشعر جلد القدس، زلزلت زلزالاً عظيما، فهي تعلم انه لا صلاح الدين بين دول عربية واسلامية مقسمة مهيضة الاجنحة، يتلاعب بها عدوها كما يتلاعب بكرة من الثلج او التنس، كانت المدينة تعلم ان الابطال الذين سيحررونها من الاسر الصهيوني مازالوا في رحم الغيب لم يولدوا بعد، لم تكن تثق في أحد من حكام العُرب الذين لا يقلون خبثاً وتآمراً من غلاة الصليبيين الطغاة.
كانت القدس تعطي عدها سراً لابنائها فقط الذين مازال يربطها بهم حبلها السري الذي يمدهم بالصمود والصلابة كأنها صخور وجلاميد جبل الزيتون العنيد، لم تعلق رجاءً على حاكم عربي، ولا علي جيوش العرب التي أعدت لقهر الشعوب والمهرجانات والعروض العسكرية وتبجيل الطواطم السياسية الحاكمة ..
(ث)
ظلت القدس مدينة السماء والانبياء تذرف دموعها منذ 1967م في صمت، يشرئب عنقها وعيونها نحو الآفاق البعيدة في الاتجاهات الاربعة، لها تسمع صهيل الخيل كما صهلت خيل صلاح الدين، علها ترى رايات الجيوش العربية تزحف من كل فج عميق، وعلها تسمع تكبيراتهم التي تهز العروش والجيوش، اصاخت السمع فلم تسمع، تفرست في كل الآفاق فلم تبصر راية ولا جيشاً ولا خيلاً مطهمةً عتاق ..!! كانت تظن ان الدول العربية التي حولها ومن المحيط الى الخليج سيكون قادتها نسوراً تنقض على الصهاينة من كل مكان، كانت تظن ان في كل ركن عربي ومضاً من فخار يعانق ومضاً، وكان تحسب ان الجيوش العربية طوفاناً من نار، وبركاناً من اعصار، ظلت مقيدة اليدين والرجلين.. دمها الزكي يسيل فوق وجهها يسطع الدم كما العقيق والياقوت والزمرد يتلامع في ليلها يئن كضوء النجيمات الشريدة البعيدة.
(ج)
ظلت المدينة كما هي تتأبى على التهويد، وتستعصي على الإرغام والإخضاع والتركيع، حاولوها الف مرة، بقيت في شموخها كمئذنة شماء لم تنكسر.. هجروا اهلها لكن بعضهم عندما غادرها مجبراً حمل معه مفاتيح بيته وترابها …فانتظرتهم جميعاً، هي خلف كل تل، ووراء كل سحاب يسافر، وامام كل باب بيت مغلق وتجلس كعصفورة حزينة فوق كل غصن زيتون وبرتقالة وعنقود عنب وثمرة رمان، لم تيأس من العودة، ولم يصبها السأم من الانتظار، ولم تستسلم للمصير.
عندما حاول اليهود تهويدها حفروا تحت ترابها عشرات الكيلومترات وعشرات الامتار في اعماقها بحثاً عن هيكل مزعوم، حاولوا تزوير التاريخ وتزييف المعالم والأسماء والامكنة والطرقات والساحات والبيوت، لكنها مثل الوشم العتيق لا تتلاشى ولا تتصاعد كالدخان، بقيت صامدة صلدة وصلبة وتنتظر …
(ح)
عندما جاء المسيح الدجال الجديد ( دونالد ترامب) زعم انها العاصمة الابدية للكيان الصهيوني ونقل سفارة بلاده اليها، وهو يتوهم ويؤمن ويصدق دعاوى اليمين المسيحي المتشدد في الولايات المتحدة الامريكية الذي يؤمن بالخرافات والاساطير التلمودية والنصرانية المنحرفة، بأن المسيح سيظهر من جديد في جبال القدس وسيدخل اليهود في الدين المسيحي وسيقترب قيام الساعة، عندما يخوض المسيح مع اليهود معركة (هرمجدون) على ارض فلسطين وينتصر على اعدائه وعلى يأجوج ومأجوج وهو محصن في مدينة القدس، ثم بعدها تقوم القيامة ..
هذه الأوهام والخرافات الصهيونية والصليبية، هي التي دفعت ترامب الى نقل سفارته الى القدس والاعتراف بها عاصمة ابدية لدول اسرائيل، وهو لا يعلم ان هذه المدينة وإن تخاذل العرب والمسلمون من حولها وتركوها وحدها تواجه السنة النار المجنونة، لا تستسلم فهي كما قال عمر المختار ( نحن لا نستسلم، انما ننتصر او نموت)، فالقدس لن تستسلم فقد واجهت الموت عشرات المرات وشهدت آلاف الحروب وذاقت طعم الاسر والاغلال والاحتلال وتفرست في وجوه الغزاة جميعاً، هي باقية على وجه الزمان والتاريخ، لن تطمس هويتها ولن يتبدل جلدها ولن ينزع منها قلبها الكبير ولن تقع في الأسر مرتين، فقد كانت عبر التاريخ عصية على السبي والاستعباد، ولن تباع بأبخس الاثمان على قارعة الطريق وأرصفة السياسة ولو عرضوها آلاف المرات في مزاد (صفقة القرن) وهي صفقة خاسرة لا محالة، مهر القدس فقط هو دماء شهداء غزة من ابطال مسيرات العودة وأصحاب الغضب الساطع .. هذا هو الثمن الوحيد ..
(خ)
في الشعر العربي الحديث الذي امتلأت دواوينه بالبكائيات والقصائد النازفة والأحزان الكبيرة وكلها تناولت مدينة القدس، ولا يوجد شاعر عربي منذ نصف قرن الا بكاها وسال دمعه مع أحباره عليها، وقبل أيام في مدينة إسطنبول التركية التي كانت عاصمة الخلافة الاسلامية وقف الرئيس رجب طيب أردوغان قبيل احتفال نقل السفارة، وتحدث عن القدس طويلاً في احتفال توزيع جوائز غصن جبل الزيتون، ثم أنشد قصيدة يحفظها عن ظهر قلب للشاعر العربي الكبير نزار قباني:
يا قدس… يا مدينة الأحزان
يا دمعة كبيرة تجول في الأجفان
من يوقف العدوان؟
عليك يا لؤلؤة الأديان
من يغسل الدماء على حجارة الجدران؟
من ينقذ الإنجيل؟
من ينقذ القرآن؟
من ينقذ المسيح ممن قتلوا المسيح؟
من ينقذ الإنسان ..
يا قدس .. يا حبيبتي
غداً سيزهر الليمون
وتفرح السنابل الخضراء والزيتون
وتضحك العيون
وترجع الحمائم المهاجرة
الى السقوف الطاهرة
ويرجع الأطفال يلعبون
ويلتقي الآباء والبنون
على رباك الزاهرة
يا بلد السلام والزيتون
الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة